الفوبيا الإستراتيجية الإسرائيلية وخطة تدمير الجيش الجزائري.أمننا والمرحلة القادمة..!!(الجزء الأول) د. بلهول نسيم

أضيف بتاريخ: 17 - 01 - 2017

مقدمة:
لقد تنامت مؤخرا تلك التقارير الإستخباراتية الإسرائيلية والتي تفيد خطورة الجيش الجزائري على الكيان الصهيوني والتي تشير إلى أن الإسلام سيهزم إسرائيل في الجزائر. وعن تحذيرات إسرائيلية من ضربة جزائرية للكيان في المرحلة القادمة!!. ويعتبر المحلل العسكري الإستراتيجي للموساد عاميرهارئيل أن الجزائريين من أكثر الشعوب العربية كرها لدولة إسرائيل، إذ لديهم الاستعداد للتحالف مع الشيطان في وجه الكيان: “إنها كراهية عجزنا عن إزالتها طيلة العقود الماضية، كما أننا فشلنا في القضاء على هؤلاء الأعداء الذين لم ندخر جهدا من أجل دحرهم أو القضاء عليهم وصمتهم مرعب ومخيف”. ويضيف قائلا: “الجزائر عدو للأبد وبوتفليقة مثله مثل هواري بومدين الذي هزم إسرائيل ودعم مصر بجيشه و سلاحه وكانت نكستنا على يدي جيشه الذي حلق بطائراته على تل أبيب في الوقت الذي لم يكن أحد يتجرأ على فعل ذلك فماذا لو تحالف مع سوريا و إيران و حماس و حزب الله”.
وعن القدرة والكفاءة الجزائرية في الحروب، اعترف الخبير الإستراتيجي الإسرائيلي “عاموس هرئيل” ليقطع الشك باليقين، ويضع نظريته التي يقول عنها إنها “الواقع الذي يصعب الإلتفاف عليه”، علما أن “هرئيل” محلل وخبير صهيوني يعتد به في مجال الشؤون العسكرية والخطط الحربية، وله مقال دائم في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، وهو واحد من الفريق الصهيوني الذي رسم خطة الحرب القادمة، وتم تكليفه برصد مواقف وخيارات الدول العربية والإقليمية في الحرب المرتقبة، استنادا لتقارير إستخباراتية زوده بها جهاز الموساد. وفيما يخص الجزائر تحدث “هرئيل” قائلا: “يأتي الحديث عن أهم وأخطر دولة في الشمال الإفريقي وهي الجزائر، وعندما نتحدث عن هذا البلد علينا أن نتوقف كثيرا أمام دروس تاريخية تسبب تجاهلها في الماضي في تكبدنا خسائر فادحة”، مضيفا في شهاداته واعترافه ببسالة القوات الجزائرية: “من الخطأ الفادح ارتكان إسرائيل وراء البعد الجغرافي الذي يفصلها عن الجزائر، ومن العبث تجاهل هذا البلد غير المروّض باعتبار أنه ليس على خط المواجهة المباشرة”.
الخبير الإسرائيلي حاول على طريقته تفسير هذه الكراهية الجزائرية للكيان، ولأنه صهيوني لم يدخر جهدا في الإساءة للإسلام والمسلمين، فخلص بالقول: “لطالما عجزت إسرائيل عن فهم سبب كراهية الجزائريين لنا، إلا أنني تمكنت عبر سنين من الدراسة والتحليل من فك طلاسم هذا اللغز المحيّر، والذي يتلخص في التركيبة النفسية والعقائدية التي تهيمن على هذا الشعب، الذي يسيطر عليه التطرف الديني إلى أبعد حد، فهم من أشد الشعوب الإسلامية اتباعا لتعاليم القرآن وأقاويل محمد والتي في مجملها تغذي التطرف والكراهية في النفوس تجاه اليهود!، وفي الوقت الذي نجحت فيه إسرائيل في القضاء على هذه المعتقدات الدموية عند كثير من الشعوب الإسلامية، إلا أننا عجزنا حتى الساعة عن اختراق النسيج الجزائري، والجزائريون يبدون من منظرهم الخارجي أكثر اعتدالا وحبّا لنا ولنموذجنا العالمي في الحرية والتفتح على الآخر، إلا أن حقيقتهم غير ذلك تماما، فهم يخفون وراء ملابسهم رجال دين أشد تديّنا من حاخامات إسرائيل، أو كما يسمونهم في عقيدتهم شيوخا” !، ويختتم “هارئيل” بالقول: “لقد انتصرنا على الإسلام في كل مكان، لكن الإسلام هزم إسرائيل في الجزائر”.
يقول “هارئيل” في اعترافاته المرعوبة: “إن استهداف الجزائر من خلال الحروب الباطنية لم يجدِ نفعا، وأن هذا البلد قد نجد أنفسنا يوما في مواجهة مباشرة معه، بل إنني أجزم بأن ضربة غير متوقعة ستوجه لنا من جديد من هناك، لكن هذه الضربة ستكون أشد قسوة من ضربة (حرب الغفران)”، مضيفا: “وغني عن البيان التذكير بالهزيمة التي لاقيناها في سيناء عام 1973 بسبب الجزائر، ورغم مرارة هذه الهزيمة وخطورة الدور الذي لعبه هذا البلد والذي أدى في النهاية إلى انكسارنا للمرة الأولى في تاريخنا، فإن دور أشد قسوة قد تشهده الأيام المقبلة؛ دور أخشى أن أتوقع فيه مشاركة الجيش الجزائري في الحرب بشكل مباشر في صف أعدائنا، خاصة وأن العلاقات التي تربط الجزائر بسوريا وإيران والتي تتنامى بشكل تصاعدي، ترجح ميل هذا الثلاثي لتشكيل حلف يقلب موازين اللعبة” !، مضيفا: “فعبثا المراهنة على تحييد الجزائر عن الحرب، في ظل الظروف التي شرحتها سالفا، تخلق رغبة دفينة لدى الجزائريين تدفعهم لمحاربتنا، خاصة وأنهم دائما يتلهفون للحصول على فرصة مجابهتنا بشكل مباشر منذ حرب 73، وعبثا تضييع الوقت مرة أخرى بإتباع سياسة التخويف والترهيب، فهي لن تحقق شيئا مع أناس دهاة يصعب خداعهم ويستحيل تضليلهم أو إثناءهم عن عقائدهم”.
ولم يغفل التقرير السياسات الجزائرية، وذكر معدّه بشكل مباشر الرئيس بوتفليقة، حيث قال: “وجود رجل مثل بوتفليقة على رأس هرم السلطة في الجزائر يجبرنا على إتباع أقصى درجات الحذر، فرغم المواقف المعتدلة التي يبديها الرجل ورغم الحيادية التي يحاول أن يوهم الجميع بها، إلا أن تاريخه ومواقفه تجبرنا على عدم الثقة به”! مسترسلا بلغة استشرافية خائفة: “فأنا أؤكد وأعتقد أن كثيرين في إسرائيل يشاطرونني الرأي بأن هذا الرجل لا يقل خطورة عن عدونا السابق بومدين، وبالرغم من أن سياساته تؤكد رغبته في تعويض الجزائر ما فاتها، ووضع الجزائريين في مكان لائق على خارطة الشعوب تحت مظلة سلمية آمنة، إلا أن هذه الرغبة لا تخفي طموح الرجل في إرجاع بلده بقوة إلى الواجهة والتأثير في القرار الإقليمي والدولي”.
والدليل، حسب خبراء تل أبيب، فإن الرئيس بوتفليقة: “يعمد في غفلة منّا إلى تطوير وتحديث جيشه بصورة مثيرة للقلق، وأعتقد أن رجلا حمل السلاح يوما وشارك في حكومة شاطرت إسرائيل العداء، رجلا على شاكلة أعدائنا تشافيز وكاسترو ونجاد، يستحيل إعطاءه ظهرنا”، واختتم بالقول: “إنه علينا أن نضع الجزائر نصب أعيننا في المواجهة القادمة، وأن ندفع واشنطن وحلفاءنا الأوربيين إلى تعزيز الانتشار العسكري في المتوسط لتحييد الجيش الجزائري، وإبعاد شبح الطعنة من الخلف”!.
الموساد.. تأهب للجزائر وحالة استنفار:
“كل الجيش الجزائري جيش غير منظم وهو يتبع نفس أسلوب أجداده الشهداء وهي حرب العصابات.. هكذا أسقطت الجزائر إمبراطورية نابليون بونابارت وتبخرت وجنرالات فرنسا وحكوماتها. لا يستطيع الفرد الجزائري أن يكون إلا مقاتل بهذا الشكل مثله مثل أجداده تماما”
رغم بعد المسافة بين الجزائر وإسرائيل فإن تل أبيب تضع الجزائر على رأس قائمة أعدائها، والدليل على ذلك هو حرصها المستمر على التجسس عليها. فالجزائر تعتبر من الدول العربية القليلة التي لا تربطها علاقات دبلوماسية أو تجارية مع الدولة العبرية. فقد أورد أحد المواقع المتخصصة في شؤون السلاح والأمن “ميناديفونس”، أن جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد”، تجسّس على الجزائر انطلاقا من ألمانيا، وأن العملية لم تكن مجرد شكوك أو تهيّؤات، بل ثابتة من خلال إلقاء الشرطة الألمانية القبض على عميلين لجهاز “الموساد” بالقرب من ورشة لتصنيع فرقاطة ألمانية موجهة لقوات البحرية التابعة للجيش الوطني الشعبي. وبحسب المعلومات التي تداولتها الصحافة الألمانية، فإن رجلي الموساد اقتربا من الحوض المينائي بمرفأ كييل، بهامبورغ شمال ألمانيا، حيث توجد الورشة التي صنعت فيها الفرقاطة الجزائرية “ميكو 200″، التي ينتظر أن تصل المياه الإقليمية عن قريب، بعد أن غادرت هامبورغ. وبحسب الاتفاق المبرم بين السلطات الجزائرية ونظيرتها الألمانية فإن فرقاطة أخرى يجري تصنيعها بنفس الحوض حاليا، على أن تسلم للجيش الجزائري، وهو ما يكون وراء تنقل عميلي الموساد للمنطقة بهدف الحصول على معلومات عن هاتين الفرقاطتين. كما ولقد أوردت سابقا شبكة التلفزيون والإذاعة “داس باست آم نوردن” المحلية، أن رجلين مسلحين يحملان وثائق هوية دبلوماسية إسرائيلية، عثر عليهما في مكان قريب من ورشة تصنيع الفرقاطتين الجزائريتين، بعد أن علُقت سيارتهما في الطين على مستوى إحدى القنوات المؤدية لورشة متخصصة في تصنيع عتاد حربي بحري.
ويشير المصدر ذاته إلى أن سكان المنطقة القريبة من الورشة هم من كشف أمر عميلي الموساد، حيث قاموا بطردهما لكون المكان الذي ولجوا إليه منطقة ممنوعة، قبل أن يبلغوا الشرطة الألمانية التي سارعت إلى اعتقال الرجلين، اللذين تظاهرا بمحاولتهما معاينة المكان، وما إذا كان سيصلح لإقامة مسابقة في رياضة التجديف البحرية، وهو التبرير الذي لم يقنع المحققين الألمان. كما قدم عميلا “الموساد” مبررات أخرى من بينها، أنهما جاءا لمعاينة مدى تقدم التحضيرات الجارية لتحويل الغواصة “أ إي بي رحف” من نوع “دلفين”، التي اشترتها الدولة العبرية من ألمانيا، وهو تبرير آخر لم يقنع المحققين الألمان، لأن هذه الغواصة غادرت هامبورغ باتجاه إسرائيل في نهاية العام المنصرم، فضلا عن معطى آخر يكون قد ساهم في انكشاف حيل الدولة العبرية، وهي أن الخبراء الإسرائيليين سبق لهم معاينة تصنيع الغواصة منذ بدايتها إلى نهايتها.
ومن هذا المنطلق، رجّح الموقع المتخصص أن يكون وجود عميلي “الموساد” في المكان القريب من الورشة، إنما هدفه البحث عن خصوصيات الفرقاطة “ميكو 200” التي غادرت باتجاه الجزائر، وتلك التي لا تزال قيد التصنيع بعين المكان، ولعل ما عزز هذه القراءة هي الإشاعات التي رافقت فترة تصنيع الفرقاطة “ميكو 200″، والتي أشارت إلى تعرض الشركة المنجزة لضغوط من قبل الحكومة الألمانية، بهدف ثنيها عن تزويد الفرقاطة بالتكنولوجية المتطورة، وخاصة ما تعلق منها بنوعية المدفع المتطور الذي تم تزويد الفرقاطة به.
وكانت مجلة “إسرائيل ديفنس” قد تحدثت عن توجيه الجيش الصهيوني غواصاته من أجل التجسس على مناطق في لبنان وسيناء، غير أن تمتع الغواصات بصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية يصل مداها إلى 1500 كيلومتر، صنعت في ألمانيا، أبانت عن رغبة تل أبيب في التجسس على دول بعيدة عن جواره، ومنها الجزائر.
لقد أشارت في العديد من المرات التقارير الإستخباراتية العسكرية الإسرائيلية أن الكيان متخوّف من ضربات محتملة قد يتلقاها من قبل الجزائر، والتي تُعدّ حسبها أقوى قوة عسكرية في شمال إفريقيا. كما ولقد أفادت تلك التقارير أن الجزائر أصبحت تشكّل خطرا على أمن إسرائيل، بسبب موقفها من الأزمة السورية ومساندتها لبشار الأسد. ولقد كشفت تقارير الموساد أن الاستخبارات كشفت أن إسرائيل قد تجد نفسها مضطرّة لمواجهة ضربة عسكرية مباشرة من الجزائر، مضيفة أن مصالح الجوسسة الإسرائيلية تتوقّع أن تكون الضربة هذه المرة أشدّ قسوة من تلك التي تلقتها في حرب 1973، مبرزة أنه من الخطإ الفادح ارتكان إسرائيل وراء البعد الجغرافي الذي يفصلها عن الجزائر، وتجاهل هذا البلد غير ”المروَّض”، باعتبار أنه ليس على خط المواجهة المباشرة.
القوات المسلحة الجزائرية.. صداع في الإستراتيجية الإسرائيلية:
“من بين ثنايا السطور ترفرف الراية الجزائرية فوق أعناق ثلة من المجاهدين الأشداء، الذين نفذت رصاصاتهم وقذائفهم وصواريخهم في صدور الصهاينة والأمريكان معا، فصنعوا تاريخا كانوا أول ضحاياه، وحفروا بطولات أدرك العدو أن الكشف عنها بمثابة نهاية حتمية لكيانه، فقدر للمعارك التي خاضتها القوات الجزائرية على جبهة قناة السويس أن تكون من أخطر أسرار تلك الحرب”
لم ينجح العدو الإسرائيلي فقط في إخفاء كل ما يتعلق بالدور الجزائري على هذه الجبهة، بل ونجح أيضا في تحويل مخاوفه من كشف حقيقة هذا الدور إلى خنجر مشهر منذ ذلك الوقت وحتى الآن في وجه الجزائريين والعرب.
حتى الآن يتذكر الجزائريون حرب أكتوبر بمرارة وحسرة وأحيانا بالدموع… الذين شاركوا فيها يعتصرون ألما لإجحاف حقهم وبالأخص المعنوي، والمؤرخون يلقون أقلامهم كلما اصطدموا بحواجز السرية والتعتيم، أما العامة فلا يفتحون أعينهم ولا يغمضونها إلا على صورة الخيانة التي رسخها العدو والصديق في أذهانهم، ويبقى الساسة والمسؤولون الذين باتوا مقتنعين بأن أعباء الحاضر ومشاكل العصر أهم من الالتفات لماض لا يسمن ولا يغني من جوع، لكن فتنة هذا الماضي القريب تنخر عظامنا اليوم أكثر من فتنة الـ14 قرنا، ولنسأل أنفسنا ونجيب بصدق: ماذا سيكون موقفنا لو شنّ الكيان الصهيوني حربا شاملة جديدة ضد قطر من أقطارنا؟.
عفوا تريّثوا قليلا، فها هي “غولدا مائير” تجيب عليكم في الصفحة 194من كتابها “حياتي” : “..أستطيع أن أؤكد لكم أن العرب لن يخوضوا حربا جماعية ضدنا لمدة نصف قرن على الأقل…”. مائير طرحت هذا الكتاب بعد حرب أكتوبر مباشرة، وقد وصلت لتلك النتيجة بعد تخصيصها لفصل كامل اختارت له عنوان “التحالف العربي وكارثة إسرائيل يوم الغفران” والذي تحدثت فيه عما أسمته “دروس ومكاسب الحرب”، فعجوز بني صهيون بررت لشعبها سبب الهزيمة في التفاف الجيوش العربية تحت راية واحدة، لكنها أكدت أيضا أنها حققت الأمن لـ”إسرائيل” حتى عام 2023، وأشارت إلى أنها قدمت للشعب الإسرائيلي أكبر “هدية”، وهي عدم إقدام العرب على محاربة إسرائيل مجتمعين. وفي فصل آخر من هذا الكتاب أشارت مائير ضمنيا أنها نجحت في إبعاد شبح وحدة الجيوش العربية مرة أخرى، لكن المرأة “الحديدية”، كما يطلقون عليها، كانت أذكى من الإفصاح عن الخطة التي وضعتها لتحول دون وحدة الجيوش العربية حتى عام 2023.
لكن “دافيد اليعازر”، رئيس الأركان الصهيوني، الذي شاهد أول هزيمة لكيانه، والذي كان كبش فداء للمؤسسة العسكرية والذي اتهم بالقصور والتردد، غضب وانهار ففاحت رائحة المؤامرة من فمه، وهنا قررت مائير إقالته ومحاصرته… كلمات اليعازر التي قالها للمرة الأولى والأخيرة نشرتها صحيفة “معاريف” العبرية بتاريخ 29 أكتوبر 1973، وجاء فيها حرفيا: “لست مسؤولا عن هزيمة صنعها قادة إسرائيل الأغبياء… استهانوا بالقوات العربية المحتشدة على الجبهتين الشمالية والجنوبية… ما حدث لقواتنا في ميناء الأديبة كان نتيجة للاستهانة والاستهتار بعدد وعتاد الوحدات الجزائرية… لقد توقع شارون المغرور أن الجزائريين بأسلحتهم البدائية سيفرون بمجرد رؤية دباباته… لكنهم نصبوا له الفخ، فخسرنا في يوم واحد 900 قتيل من أفضل رجالنا وفقدنا 172 دبابة… ألم أصرخ في وجه ديان الذي قال إن هذه النقطة – يقصد موقع القوات الجزائرية – هي الأضعف على القناة؟، ألم أخبره أمام القادة بأن نظريته المرتكزة على جهل الجزائريين بطبيعة المكان وأسلوب القتال معنا نظرية هشة، وأن هؤلاء لديهم خبرة أكبر من المصريين أنفسهم في حرب العصابات التي انهارت بفعلها فرنسا؟. لقد أخطأ ديان هو وتلميذه المعتوه شارون حينما خططوا بتفاؤل لإبادة هذه القوات أثناء انكشاف خطوط الدعم المصرية عنها وانشغال المصريين بالقتال على رؤوس الجسور؟، أما مائير فقد كللت أخطاءها من قبل بمخالفة تعاليم التوراة وترك وصايا بن غوريون، حينما سمحت للعرب طوال ست سنوات كاملة للاحتشاد تحت قيادة موحدة، إنها – يقصد مائير – تتحدث اليوم عن خطة تشتيت العرب وتفريق كلمتهم لمدة 50 سنة مقبلة. قائدة “إسرائيل” ملت من تحميل الآخرين نتيجة أخطائها، لتضع خططا لا تعدو أن تكون أحلاما، موهمة الشعب الإسرائيلي أنها انتصرت، أو على الأقل لن تتكرر الهزيمة.
فالتصريحات التي خرجت من قمة الهرم العسكري الصهيوني دفعتني دفعا للبحث عن كل ما قيل داخل كيان العدو في تلك الفترة، فقد كانت صدمة الهزيمة قوية على العدو، حتى أنها أفقدته قدرته المعروفة على تزييف الواقع أو طبخ التبريرات، فقادني البحث إلى محاضر استماع لجنة التحقيق التي أطلق عليها اسم “أجرانات”، والتي شكلت في تل أبيب للوقوف على أسباب الهزيمة، تلك المحاكمة ظلت معظم وقائعها سرية حتى عام 2005، حينما خرجت لأول مرة مذكرات أحد القضاة الذين أشرفوا عليها، وبالتوقف عند الجلسات التي تعلقت بشهادة وزير الحرب الصهيوني الجنرال “موشي ديان”، تتكشف أجزاء من الحقيقة. فحينما سئل ديان عن قراره وخطة الهجوم على الأديبة أجاب قائلا: “مثلما حدث في بقية مجريات الحرب… المصريون خدعونا وجعلونا نعتقد أن ميناء الأديبة غير محصن… كلفوا القوات الجزائرية بمهمة حمايته… فبنينا خططنا على أساس معلومات تؤكد لنا أن تلك النقطة الاستراتيجية في متناولنا، فحاولنا الاستيلاء عليه في الأيام الأولى للحرب، من أجل فتح منفذ على الجبهة تمر منه مدرعاتنا والمدرعات الأمريكية لتطبيق خطة التطويق، فوجهنا قصف صاروخي ومدفعي شديد ومركز على المنطقة كلها، لكن معظم صواريخنا أسقطتها الصواريخ المصرية المنتشرة على مسافة 15 كيلومترا من الميناء، في حين لم نلقَ مقاومة ولم تطلق قذيفة واحدة من المكان المستهدف، فتأكدنا أن الوضع آمن، وأننا دمرنا أسلحة الرد الثقيلة لدى القوات الجزائرية، أو أن هذه الأسلحة سحبها المصريون لاستخدامها في الهجوم، كانت كل المعطيات والتحليلات تدل على أن الجزائريين لا يملكون أسلحة قادرة على عرقلة العملية، وكنا قد جمعنا معلومات أخرى تشير لوجود حالة تذمر وانشقاق داخل تلك القوات بسبب عدم سماح المصريين لهم المشاركة في الهجوم على سيناء، وهنا أعطينا الضوء الأخضر لحلفائنا الأمريكيين، وفي الوقت ذاته أمرت اللواء 190 مدرع بالهجوم بكامل قوته على القوات المصرية في منطقة القنطرة شرق لشغل المصريين وإبعاد أنظارهم عن السويس وبالتحديد الأديبة، ثم أمرت اللواء مدرع 178بقيادة الجنرال شارون بمهاجمة الميناء والاستيلاء عليه بسرعة، وقبيل وصول اللواء178 للميناء فوجئنا بخبر إسقاط طائرة أمريكية عملاقة من طراز سي 5 غلاكسي بواسطة صاروخ أطلق من مواقع القوات الجزائرية، ووصلتني إشارة عاجلة تفيد بانقلاب الموقف رأسا على عقب، حيث تصدت مضادات جزائرية متطورة للطائرات الأمريكية وأمطرتها بعشرات الصواريخ فأسقطت واحدة وأصابت اثنتين أخريين. نجحتا فيما بعد في الهبوط في أحد مطارات النقب، ولم تمر خمس دقائق أخرى حتى وصلتني رسالة ثانية تفيد بإطلاق بطاريات الصواريخ والمدفعية الثقيلة للقوات الجزائرية النيران بكثافة على المواقع التي انطلق منها القصف الإسرائيلي على الأديبة. هنا شعرت أننا وقعنا في فخ خطير، وأن العدو نجح في استدراجنا بخبث لم نعهده في حروبنا السابقة معه، وأن كارثة على وشك الحدوث، فحاولت الاتصال بالجنرال شارون ليوقف الهجوم ولكنه كان مجنونا”.
وقبل سماع بقية شهادات ديان، أذهب للأدميرال “توماس مورير”، عضو هيئة الأركان الأمريكية المشتركة أثناء حرب أكتوبر، والذي يقول في مذكراته: “إصابة السي 5 غلاكسي أصاب هيئة الأركان الأمريكية بالفزع، فقد كانت المرة الأولى التي يفقد فيها الأسطول الجوي الأمريكي واحدة من طائراته العملاقة الست، ولولا العناية الإلهية لفقدنا اثنتين أخريين، وبلغ الإحباط مداه حينما أعلن الرئيس نيكسون حالة الطوارئ داخل مقر قيادة الهيئة، طالبا تقديم تفسير مناسب لتلك الخسارة الفادحة، فلم نكن نملك أية تفصيلات أخرى باستثناء عبارات عاطفية وصلتنا من تل أبيب تتحدث عن خدعة وسوء تقدير، وبعد 18 ساعة كاملة جمعنا المعلومات التي صيغ منها التقرير الذي استلمه الرئيس في صباح اليوم التالي التاسع من أكتوبر 1973، والذي ذكرنا فيه أن السوفييت زودوا العرب بصواريخ حديثة كانت سببا مباشرا في فشل عملية الإنزال في منطقة السويس، وأجلت خطة الالتفاف على القوات المصرية لأكثر من أسبوع، لكننا اكتشفنا بعد تحليل حطام الطائرة أنها أصيبت بصاروخ سام عادي استوردته الجزائر من موسكو عام 1972.
وإليكم الآن بعض الفقرات من شهادات ديان، والتي يقول فيها للمحققين: “اتهامي بالمغامرة بحياة جنودنا بناء على توقعات خاطئة ليس صحيحا، فبمجرد أن أشعل العدو النار في الأديبة حاولت إيقاف الهجوم البري، وأمرت الجنرال شارون بالانسحاب الفوري، لكنه كسر الأمر العسكري، واندفع باتجاه القوات الجزائرية، فوقعت الكارثة”. تلك الكارثة تحدث عنها موشي ديان بالأرقام “900 قتيل و172 مركبة”. لكن المؤرخ والكاتب الصهيوني “شفتاي تيبت” يتحدث عام2000 عن سبب حجب كتابه المتعلق بخبايا حرب يوم الغفران، فيقول: “لأكثر من ربع قرن وكتابي ممنوع من النشر لأني أكشف فيه عن حقيقة جبن شارون الذي قدمته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية للشعب الإسرائيلي على أنه بطل حرب كيبور، فقد كنت ضابطا في اللواء 178 مدرع الذي تعرض لمجزرة لم يشهد مثلها جيش الدفاع من قبل، مات أغلب رفاقي، وبقيت رفقة قائد اللواء أرئيل شارون وثلاثة جنود… نعم لم ينجُ من لواء مدرع بأكمله مدعوم بكتيبة مظلات سوى خمسة أشخاص، بقيت حيّا لأشهد على شجاعة وبسالة شارون “العظيم”… الذي يتحمل وحده ما وقع لإسرائيل في هذا اليوم الأسود… شارون كان يسير باتجاه الأديبة منتشيا ولم يستطع إخفاء أحلامه الشاذة في المجد والخلود، فقال لي: “سنبيد هذه الحشرات في لحظات”، وأمرني والجنود بتدمير كل شيء حي على الأرض وقتل أي أسير والتنكيل بالجثث، لقد قال بالحرف الواحد: “أريد أن ترتج السماء والأرض بانتصاركم الوشيك…”. لقد كان يتصرف وكأنه ذاهب لإبادة قرية لا يوجد بها سوى نساء وأطفال عزل… لم يتصرف مطلقا كقائد مسؤول عن أرواح رجاله… كان يقول بغباء لم أشهد مثيله في حياتي: “المهمة سهلة جدا… بضعة مئات من الجزائريين الضعفاء غير مدربين ولا مسلحين وغير مدعومين بالمرة.. نريد أن نفرمهم بجنازير دباباتنا لنلقن المصريين درسا مؤلما… ولنؤدّب كل من تسوّل له نفسه التصدي لنا”. كان فاشيا وقاسيا ولا يقبل الرأي الآخر، حتى أنني لم أستطع مناقشة خطة الهجوم معه بوضوح، وعندما جاءتنا الأوامر من القيادة العليا تطالبنا بالانسحاب الفوري، جنّ جنونه ورفض الأمر، في تلك الأثناء كنّا على بعد 10 كيلومترات من الهدف، فصرخ في الجميع عبر مكبر الصوت يخطب وكأنه داوود، قائلا: “على بعد أمتار ينتظركم المجد… قلوب أمهاتكم وقلوب العالم كلها معكم… بعد ساعة واحدة من الآن ستنظر لكم إسرائيل من تحت… أبيدوا هذه الفئران الجبانة التي ترتعد من بأسكم… لا ترحموهم… علموا العالم كيف يتعامل مع هذه الحثالة… لا تتركوا بيتا واحدا في الجزائر إلا متوشحا السواد… ومن بعد التفتوا إلى المصريين الجبناء… من الآن استعدوا لبناء أمجاد إسرائيل”.
ويواصل تيبت كشف أسرار هذه المعركة قائلا: “اندفعنا بقوة صوب الأديبة تسبقنا قذائف دباباتنا… وما أن توغلنا في عمق المنطقة حتى وجدنا أنفسنا محاصرين من كل الجهات… كانت دباباتنا تنفجر بمعدل ثلاث إلى أربع دبابات في الثانية، فظننت أننا سقطنا في حقل ألغام… لكن أصوات الأعداء كانت تأتي من كل الإتجاهات، يقولون قولتهم الشهيرة “الله أكبر” وهم يمطروننا بالصواريخ المحمولة كتفا “آر.بي.جي”، المفاجأة شلت أيدينا وعقولنا… لم نتمكن من إطلاق قذيفة واحدة عليهم… لقد كانوا قريبين جدا… ولم تمر دقائق حتى دمر اللواء المدرع بأكمله، في حين لم تصمد قوات المظليين لأكثر من 30 دقيقة… وأبيدت عن آخرها… وتخيلوا… ماذا كان موقف شارون الشجاع وسط هذا الجحيم؟، كان يصرخ ويبكي كالطفل الذي تركته أمّه تائها في الصحراء، كان يقول لسائق الدبابة تراجع… تراجع، لكن الصواريخ كانت أقرب من أوامره، فقفزنا من دبابتنا المحترقة تسترنا النيران المشتعلة في كل مكان، حتى قفزنا في مستنقع عشبي، أخذنا نسبح والنيران تلاحقنا… وشاءت الأقدار أن ننجو من المذبحة التي أوقعنا فيها بطل إسرائيل العظيم شارون، الذي أضاع على إسرائيل فرصة الإلتفاف الأولى والهامة على الجيش المصري…
المؤرخ والكاتب الصهيوني “شفتاي تيبت” كان أول من تحدث داخل الكيان الغاصب عن تفاصيل معركة “الأديبة”، أو كما يسميها القادة العسكريون “الثغرة الأولى”، وكان أول من كشف حقيقة “أرئيل شارون” أمام الشعب الإسرائيلي، في الوقت ذاته لم يكن “تيبت” الوحيد من بين الصهاينة الذين قدموا أدلة على الهزائم التي مُني بها الجيش الصهيوني على يد القوات الجزائرية، فمعركة الأديبة وبالرغم من كونها واحدة من أشرس معارك حرب أكتوبر، إلا أنها لم تكن آخر المواجهات المباشرة بين الجزائريين والصهاينة، بل كانت سببا مباشرا في توجيه دفة الحرب تجاه مواقع القوات الجزائرية… وقبيل التحدث عن بقية معارك القوات الجزائرية مع العدو، أردت التوقف عند جوانب أزمة خطيرة هددت العالم كله آنذاك، ذلك أن نتيجة معركة الأديبة وتوقيت حدوثها فتح الباب أمام واحدة من أخطر الأزمات النووية العالمية… فبات استخدام السلاح النووي في المعركة مطروحا على الطاولة. وفي هذا السياق يقول الأدميرال الأمريكي “توماس مورير”: “تسببت الهزيمة الثقيلة التي منيت بها أمريكا و”إسرائيل” في ميناء الأديبة بمدينة السويس إلى تصاعد وتيرة الحرب بشكل أوحى لكافة الأطراف المتحاربة بأن الحرب النووية على الأبواب، وفي اللحظات الأخيرة تراجع الجميع عن قرارات الهجوم بأسلحة الدمار الشامل بعد فشل الجبهتين المتقاتلتين في تحديد هوية ونتيجة الحسم. وأضاف مورير: “بعد يوم واحد من وقوع معركة ميناء الأديبة، وتحديدا في صباح يوم التاسع من أكتوبر 1973 – رابع أيام الحرب – كانت الولايات المتحدة قد حسمت أمرها وقررت شنّ حرب شاملة على العمق المصري، وانطلقت وقتها مقولة “نريد مليوني قتيل”، فقد كانت واشنطن تريد الضغط على الجيش المصري من خلال إيقاع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، لإجبار القيادة السياسية والعسكرية على وقف الحرب، وتكرار سيناريو اليابان في الحرب العالمية الثانية التي أجبرت على الاستسلام بعد إبادة سكان هيروشيما ونغازاكي، ولكن هذه المرة بدون استخدام السلاح الذري تجنبا لاندلاع حرب نووية عالمية، والاستعاضة عن ذلك بقنابل ذات قدرة تدميرية واسعة تصب على التجمعات السكنية المكتظة بواسطة مئات الطائرات، وكان واضحا أن الأمريكيين متألمون جدا من الهزيمة التي لحقت بهم قبل يوم واحد من هذا القرار، حتى أنهم لم يكونوا في حاجة لاستغاثة رئيسة الوزراء “غولدا مائير” التي أطلقت نداءها الشهير “أنقذوا إسرائيل… لم يبق سوى السلاح الذري«، لكنهم في الوقت ذاته ـ يقصد الأمريكيين ـ منعوا تل أبيب من الإقدام على ضرب القاهرة بالقنابل الذرية، بعد تواردت معلومات تؤكد أن المصريين والسوريين تسربت لهم خطة مائير النووية، فحملوا كل ما يملكون من صواريخ متوسطة المدى برؤوس كيميائية وبيولوجية وجعلوها في حالة جهوزية قصوى للإطلاق صوب تل أبيب والنقب وحيفا، وعلى حسب تقدير القيادات الأمريكية آنذاك فإن السادات اتصل بشريكه في الحرب “حافظ الأسد” وطلب منه الاستعداد لتنفيذ ما أسماه “الخطة الثانية للحرب”، التي أعدها العرب قبيل الحرب للرد بأسلحة الدمار الشامل على أي هجوم ذري إسرائيلي، وأن عدد هذه الصواريخ إما قارب أو جاوز المائتي صاروخ بقليل، 130 منها على الجبهة الجنوبية (مصر)، و70 على الجبهة الشمالية (سوريا)، وجاءت هذه التقديرات بناءً على نجاح الـ”سي.آي.إيه” في فك شفرة هذا الاتصال، لكن حتى الآن لا يعلم أحد إذا كان اتصال السادات ما هو إلا مناورة لإخافة خصومه، خاصة وأنه الاتصال الوحيد الذي لم يكن مؤمَّنا، وكأنّ صاحبه يريد وصوله للخصم، إضافة إلى أن عملية التجهيز الصاروخية على الجبهتين المصرية والسورية والتي نفذت بالفعل كانت أيضا مكشوفة ومرصودة بوضوح من قبل الأقمار الاصطناعية، وهو ما لم يكن متوفرا بنفس الدرجة مع التحركات الصاروخية العادية أو التقليدية التي استخدمت بالفعل تحت غطاء تمويهي حال دون كشف القواعد التي تنطلق منها، لكن أيّا كان الأمر… فإن العرب كانوا يمتلكون بالفعل عددا كبيرا من الصواريخ القادرة على الوصول للعمق الإسرائيلي، وكذلك عددا معتبرا من الرؤوس غير التقليدية، فكان إقدام أحد الطرفين على استخدام أسلحة الدمار الشامل بمثابة كارثة للعالم كله، فحيد هذا الخيار، وبحثت »إسرائيل« والولايات المتحدة عن بدائل أخرى… لكن تلك البدائل لم تمكنهما من إبعاد شبح الهزيمة.
عندما بحثت عن هذه البدائل، وقعت في يدي وثيقة هامة محشورة في مذكرات “بي جروميكو”، وزير الخارجية السوفييتي وقت الحرب، والذي تحدث عن خطة الاختراق الجوي للعمق المصري، فيقول: بعد أن وقف العالم على شفير حرب نووية، تراجعت أمريكا و”إسرائيل” فتراجع الاتحاد السوفييتي هو الآخر بعدما أعلن حالة التأهب النووية القصوى، لكن هذا اليوم تلبّد بغيوم خطة خطيرة كاد أن يحدث نجاحها كارثة للعرب، حيث تقدم جنرال الجو الإسرائيلي “بيليد” بخطة عرضها على رئاسة أركان القوات الإسرائيلية، وكانت تلك الخطة موجهة ضد العمق المصري، ففي تمام الثالثة من مساء يوم 09 أكتوبر 1973 اجتمع كل قادة “إسرائيل” في مكتب رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير ليوافقوا بالإجماع على تنفيذ خطة الهجوم على العمق المصري بما تبقى من طائرات سلاح الجو الإسرائيلي مدعومة بـ530 طائرة أمريكية هبطت بطياريها في مطارات “إسرائيل” خلال الأيام الثلاثة الأولى للحرب، وذلك عبر هجمة واحدة فقط، تستهدف ضرب الكيان الاقتصادي والصناعي وتنقضّ على تجمعات مدنية ومراكز صناعية إضافة للمناطق العسكرية… وكان من المقرر أن تبدأ الخطة بهجوم جوى مركز في الساعات الأولى من صباح العاشر من أكتوبر، وذلك على بطاريات الصواريخ والقواعد الجوية التي عرفت وقتها بحائط الصواريخ، وبدأ العد التنازلي لتنفيذ الخطة، ولكن العملية ألغيت قبيل دقائق من ساعة الصفر المقررة لها “الخامسة من صباح العاشر من أكتوبر”، وكان الإلغاء بقرار من مكتب رئيسة الوزراء أثناء اجتماعها مع موشى ديان ودافيد إليعازر رئيس الأركان و”كينيث كيتنغ” سفير واشنطن في “إسرائيل” آنذاك، وكان سبب الإلغاء معلومات سرية مزودة بصور التقطتها أقمار التجسس الأمريكية تؤكد قيام المصريين بنشر عشرات البطاريات من الصواريخ المتحركة حول القاهرة والإسكندرية، الأمر الذي أدى لإجهاض الخطة من أساساتها، فقد كان مقدرا، بناءً على دراسة لقدرات حائط الصواريخ المنتشر على القناة، أن الدفاعات المصرية استنفدت الكثير من قدراتها خلال الأيام الأولى للحرب، وأن عددها يكفي بالكاد لإسقاط 200 طائرة، في حين ستتمكن بقية الطائرات المهاجمة من الوصول لأهدافها، لكن وبعد عملية النشر الصاروخي الداخلي، والتي شكلت حائط صواريخ ثانياً، بات أمل الوصول للهدف منعدما. حقا قبلت القيادات الإسرائيلية والأمريكية في سبيل تنفيذ هذه العملية بخسران 200 طائرة، لكنها لم تكن على استعداد لفقدان جميع طائراتها في عملية محكوم عليها بالفشل، وهو ما كان سيعني تأكيد السيطرة المصرية على سماء المنطقة برمتها، فعاد التفكير من جديد في الهجوم البري على مواقع الصواريخ والدفاعات المصرية.
العقيد “عساف ياجوري”، قائد اللواء 190 مدرع، والذي وقع في أسر القوات المصرية في واحدة من أعنف معارك الدبابات التي شهدها التاريخ، والذي اتهمته القيادات الصهيونية بإفشائه أسرارا للمصريين تسببت في إحباط عملية الثغرة الثانية، رد على الاتهامات الموجهة ضده أمام لجنة الدفاع بالكنيست قائلا: “تلقيت الأوامر من الجنرال شارون بالهجوم على ميمنة الجيش الثاني الميداني في منطقة القنطرة شرق، لشغل أنظار المصريين عن الهجوم الجنوبي على الأديبة، لكن المصريين كانوا يعرفون ميعاد وصولي واستعدوا لاستقبالي، وعلى غرار الفخ الذي نصب في الأديبة وجدت فخا في القنطرة، لكنني لم أهرب مثل قائدي… قاتلت واستمرت المعارك أربع ساعات متواصلة… كانت دبابات الأعداء أكثر من دباباتنا… وكانوا يجيدون الرماية على مختلف المسافات… كانوا يتقدمون بسرعة نحونا… وما زاد الطين بلة تطويق عدد من أفراد قواتهم الخاصة لنا، واتباعهم أسلوب التدمير والشل الحركي لمركباتنا ـ يقصد إعطاب مقدمة ومؤخرة طابور الدبابات، فتعجز بقية دبابات المنتصف عن الحركة ـ، وكان الاستسلام هو السبيل الوحيد للنجاة، لكن المصريين استجوبوني بدهاء حتى استدرجوني لكشف هدف الهجوم، ومكانه الحقيقي”.
شهادة “عساف ياجوري” وجدتها تتوافق كثيرا مع ما ورد في مذكرات المشير الجمسي، الذي تحدث عن هذه العملية قائلا: كانت اعترافات العقيد الإسرائيلي الأسير “عساف ياجوري” مهمة للغاية، وكشفت للقيادات المصرية نوايا العدو الرامية للوصول لحائط الصواريخ، وتدميره لفتح ثغرة للطائرات الإسرائيلية، وكان واضحا لدينا جميعا في غرفة القيادة أن العدو تأكد تماما من عجزه عن صد قواتنا المهاجمة في سيناء، لأنها كانت تتحرك تحت مظلة قوية من الدفاعات الأرضية والمقاتلات المصرية، لذا لم تكن توجد حلول أمامه لوقف تقدم قواتنا في عمق سيناء إلا بانكشاف الغطاء الجوي المصري، لكننا كنا متأكدين ـ بعد فشل محاولة اختراق اللواء 190 مدرع لقواتنا عند محور القنطرة شرق، وفشل عملية الأديبة ـ أن العدو بات عاجز كليا عن تكرار مثل هذا النوع من العمليات في مناطق العبور التي أحكمت القوات المصرية قبضتها عليها تماما، وفي نفس الوقت كانت التحليلات العسكرية تشير إلى أن العدو سينفذ عملية التفاف ولكن من مكان آخر وبأسلوب آخر، وبدراسة دقيقة لنقاط الجبهة وجدنا أن ميناء الزيتية المتاخم للأديبة هو النقطة الأمثل لتنفيذ هذه العملية، وهنا تركنا العواطف جانبا، ورفضنا الاقتناع بأن العدو لن يفكر في الهجوم على المكان الذي خسر في ساعة واحدة لواءً مدرعا كاملا وكتيبة مظليين، وعلى الفور قررنا تدعيم القوات الجزائرية المسؤولة عن تأمين الزيتية بكتيبة صاعقة، وكانت المهام الموكلة لتلك الكتيبة جديدة ولم تطبق في الحروب من قبل، فصعقت العدو وأفشلت عملية الثغرة الثانية.
لأن القادة المصريين يتحفظون دائما خلال مذكراتهم على سرد تفاصيل العمليات العسكرية وهذا حال المنتصر، فإن المشير الجمسي لم يقدم أكثر مما أورده عن عملية الزيتية، لكن القادة الصهاينة المنهزمين كانوا مجبرين على قص كل كبيرة وصغيرة أمام لجان التحقيق.
الجنرال “شمويل جونين”، قائد الجبهة الجنوبية مع مصر، والقائد المباشر لشارون، يحمّل في اعترافاته أمام لجنة التحقيق شارون المسؤولية الكاملة عن الهزيمة في عملية الزيتية “الثغرة الثانية” فيقول: “في صباح يوم 10 أكتوبر تلقيت أوامر من الجنرال “حاييم بارليف” بالتحرك بكل قوات المنطقة الجنوبية باتجاه ميناء الزيتية، أما طبيعة المهمة فتلخصت في الاستيلاء على الميناء والاتجاه صوب الأديبة، وتطهيرها من القوات الجزائرية، وإيقاع أكبر عدد ممكن من الجنود والقادة الجزائريين أحياء بناء على أوامر سياسية. وقبيل استكمال شهادات “جونين”، أتوقف قليلا مع كتاب غولدا مائير “حياتي” التي أشارت فيه هي الأخرى لتلك العملية بالقول: “لقد هزت هزيمة الأديبة القيادات الإسرائيلية، وكنت أكثر ما أخشى أن تتسرب الحقيقة للمجتمع الإسرائيلي، فأمرت الجنرال موشي ديان الذي وضع خطة الهجوم على الزيتية بأن يصور عملية القضاء على القوات الجزائرية والتي قدرت بحوالي ثلاثة آلاف، على أن يوقع منهم من 10 إلى 50 أسيرا، لأواجه بهم الإعلام الذي بدأ يشتم رائحة الفضيحة”.
وأعود مرة أخرى لجونين الذي يقول: كان شارون يخضع لإسعافات في النقطة الطبية التابعة لقيادة المنطقة الجنوبية، حيث أصيب رأسه في المعركة، أجريت له جراحة فخيط بثماني غرزات على ما أذكر، إلا أنه كان يحاصرني بجواسيسه الذين أخبروه باستعداد القوات للتحرك صوب الزيتية والأديبة، فدفع باب مكتبي بوقاحة وظل يضرب على المكتب بكفيه، قائلا: “أنا من سيتولى قيادة الهجوم’، فحاولت إفهامه برفق أنه مصاب ولايزال تحت وقع الصدمة، وأنني سأتولى قيادة الهجوم شخصيا، فتوجه نحو الهاتف واتصل بالجنرال ديان، قائلا له: هذا ثأري يا جنرال… هذه معركتي… لن يتولى سواي قيادة هذه العملية”، ثم ابتسم بشماتة وهو يعطيني سماعة الهاتف، ليأمرني الجنرال ديان بالامتثال لأوامر شارون، وهنا أدركت أنني أهنت لأبعد مدى، فقررت تقديم استقالتي على الفور، ويضيف جونين: لم أقدم على الاستقالة في أوج المعركة خوفا من العرب، ولكني أردت أن أتنحى جانبا عن العار الذي سيجلبه شارون لـ”إسرائيل”، فقد كانت هذه العملية في حاجة إلى قائد متزن ومحنك وشجاع أيضا، لكن شارون المغرور والجبان في نفس الوقت وضعته القيادة العسكرية فوق أعناق الجميع، وفوق “إسرائيل” نفسها.
أترك جونين الذي انتهى دوره في المؤسسة العسكرية الصهيونية منذ تلك الواقعة، لأعود إلى “شفتاي تيبت” الذي يقول: بمجرد أن سمعت بأن شارون هو من سيتولى الهجوم على الزيتية خلعت شاراتي العسكرية، وطلبت من قادة المنطقة الجنوبية تقديمي للمحاكمة، فنصحني الجنرال جونين بالتراجع عن هذا القرار لأن توابعه خطيرة على مستقبلي، وأن المحكمة العسكرية لن ترحمني لأنه جاء وقت الحرب، وسيفسر على أنه هروب من الميدان أثناء القتال، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الإسرائيلي بالتجريد من كل الرتب العسكرية والحبس لمدة عشر سنوات، لكنني أخبرت الجنرال أنني أعلم ذلك، وتمسكت بقراري، وبالفعل قدمت للمحاكمة وجردت من رتبتي العسكرية، إلا أن ذلك كان بالنسبة لي أشرف من القتال تحت إمرة معتوه، رأيته بعيني يبكي كالأطفال في ساحات المعارك الحقيقية، ورآه العالم من بعد يضحك كالمجنون في معاركه ضد النساء والشيوخ.
الصاعقة الجزائرية وصدمة إسرائيل:
الجزائريون والصهاينة وجها لوجه بالسلاح الأبيض وحوش.. شياطين.. سحرة وقردة.. هذه بعض الأوصاف التي أطلقها الصهاينة على الجزائريين في ثاني مواجهة عسكرية معهم، إنها معركة الزيتية التي تخلى فيها المقاتلون العرب عن أسلحتهم الثقيلة، ليواجهوا بأجسادهم دبابات العدو ونخبة قواته.
قبل التعمق في البحث عما جرى في معركة “الزيتية” أو الثغرة الثانية، أتوقف للمرة الأخيرة مع المؤرخ “شفتاي تيبت” الذي يروي تفاصيل فرار شارون من القوات الجزائرية بعد هزيمته في “الأديبة”، تيبت أدلى بشهادته تلك أمام لجنة التحقيق “أجرنات”، فقال: أعترف أنني انسحبت من ميدان القتال في أشد اللحظات حرجا في تاريخ دولة »إسرائيل«.. لم تكن مبررات انسحابي بالهينة.. بل كنت أحاول أن أوصل صوتي من ميدان المعركة لقادتي في تل أبيب.. إنهم لا يرون ما أرى ولم يعايشوا ما عايشت.. لقد خدمت مع الجنرال شارون خمس سنوات فلم أر سوى شخص مجنون مصاب بعدة أمراض نفسية خطيرة.. ولم أره أكثر وضوحا إلا أثناء القتال.. إنه لا يفقه شيئا عن القيادة العسكرية.. في معركة الأديبة دفع زملائي حياتهم بسببه وسجل التاريخ هزيمة نكراء لـ”إسرائيل” كنا في غنى عنها.. كدت بل كاد هو أيضا أن يفقد حياته بسبب سوء تصرفه وعجزه عن القيام بواجبه العسكري.. وحينما علمت أن القيادة كلفته من جديد بقيادة هجوم الزيتية أدركت أن ثمة خطأ ما حاصل في غرفة القيادة، وأنه لا سبيل لتصحيح الخطأ إلا بإعلان التذمر ليفتح ملف التحقيق قبل فوات الأوان.. في الواقع لم أكن أريد أن أسجل اسمي في قائمة صانعي هزائم “إسرائيل”، لكنني أيضا لم أكن أريد أن تسير “إسرائيل” إلى حتفها على يد شارون.
ويضيف تيبت: في طريق انسحابنا من الأديبة كان شارون ينزف بشدة من رأسه.. كان قد أصيب بجرح بالغ وعميق، وخلال رحلة العودة الشاقة عرفته على حقيقته.. لقد تحول القائد الشجاع الشرس المقدام إلى طفل وديع.. أخبرني أنه سيطلق الحياة العسكرية ولن يعود مطلقا للقتال، وأنه تعلم أشياء كثيرة في الأديبة، حتى أنه أثنى على العدو.. وطلب مني ومن الجنود الثلاثة الذين نجوا من المذبحة أن نزيف حقيقة ما جرى لنا في المعركة، أمرنا بلطف أن نتحدث عن آلاف من العرب ومئات الدبابات والصواريخ المتطورة، وأننا قاتلنا بشجاعة وشراسة لكن العدو كان أكثر عددا وعتادا، وأخبرنا أن ما جرى لنا نستحق عليه التكريم وليس العقاب، ظننت أنه على حق وامتثلنا لأوامره، لكنني اكتشفت من بعد أنه كان يهذي وأن إصابته أثرت على مخه.. فبمجرد وصولنا لمقر قيادة المنطقة الجنوبية حاول التغلب على إعيائه وهزيمته وأخذ يرفع رأسه بشموخ لا يجرؤ المنتصر الحقيقي عليه، ولم تمر ساعات حتى عرفت أنه كلف من جديد لمعاودة الهجوم على نفس الموقع الذي هزمنا فيه، وعندما واجهته بما قاله لي أثناء عودتنا من الأديبة هددني بالقضاء على مستقبلي العسكري أو قتلي إذا أخبرت أحدا بما جرى.. لكنني كنت أشجع من تهديداته.. اعترفت بالحقيقة للجنرال “جونين” لكنه هو الآخر كان قد استقال، ليحل محله الجنرال “حاييم بارليف” الذي كان متعاطفا مع شارون في جنونه وغبائه ونفاقه.
المؤلفان الصهيونيان “رونين برغمان” و”جيل مالتسر”، يكشفان في كتاب يحمل اسم “حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية” عن وثائق سرية من أرشيف هيئة الأركان العامة والحكومة الصهيونية تفضح جزءاً مما حدث في معركة “الزيتية”، وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب وتحت عنوان “الزيتية.. بئر الموت” يستهل الكاتبان بالقول: اعترافات الجنود والضباط الناجين من معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع تكشف عن ارتكاب القادة العسكريين الإسرائيليين وكذلك القيادة السياسية لجملة من الأخطاء القاتلة، أدت في النهاية للهزيمة.. لقد اختصر القادة أهدافهم وخططهم العسكرية على إحداث فجوة في الجيش المصري، لم يكن هدفها الالتفاف على القوات المهاجمة بقدر إحداث ضجة إعلامية، تقلل من وقع الهزيمة عند الرأي العام الإسرائيلي، فمن الجانب العملي كانت هذه الخطة غير قابلة للتطبيق نظرا لتفوق العدو العسكري بدءا من اليوم الرابع للحرب، وتماسك خطوطه القتالية وتحكمه في زمام الأمور.. وقراءته الصائبة لرد الفعل الإسرائيلي.
ويضيف الكاتبان: نتيجة معركة الزيتية تمثل أكبر فشل تعرض له الجيش الإسرائيلي، لكن المؤسف أن صانعي القرار في “إسرائيل” لم يكتفوا بإخفاء ما حدث فيها، بل قدموها للشعب على أنها واحدة من إنجازات حرب الغفران، وربما استندوا في رأيهم هذا إلى عودة قرابة الخمسين في المئة من قواتنا سالمة، وهو ما لم يحدث في معركة الأديبة التي سبقتها بيوم واحد بنسبة خسائر مئة في المئة، هكذا إذن بلغ الطموح العسكري الإسرائيلي في القتال مع العرب.. التغني بالنجاة والتهليل للتقهقر والفرح لوقف إطلاق النار، وبالاطلاع على شهادات المشاركين في معركة الزيتية أمام لجنة الاستماع يتضح أن “إسرائيل” لم تنهزم فقط عسكريا، بل انكسرت انكسارا لا تكفي السنون لإصلاحه.
ويواصل الكاتبان قائلين: أحد الجنود المشاركين في هجوم الزيتية الفاشل يقول: لم نكن نحارب بشرا بل شياطين تظهر وتختفي.. قذائفنا لا تصل إليهم ونيرانهم تحرق كل شيء. جندي آخر يقول: لم تكن هناك جبال ولا أحراش ولا حتى أحجار يختفون وراءها.. لم تكن هناك سوى الصحراء والرمال.. حتى السماء كانت صافية ومبشرة بالنصر.. لم نر عدونا لكنه كان يرانا بوضوح.. يراقب تحركاتنا في صمت حتى أطبق علينا.. ظننت أن النيران تطلق علينا من السماء، أو من المدفعية بعيدة المدى.. تخبطنا وارتبكت صفوفنا.. ولم يكن لدينا الوقت الكافي لإعادة تنظيمها.. وفجأة وجدناهم في كل مكان.. يقفزون كالقردة لا تسترهم سوى سحب الدخان المتصاعد من آلياتنا، فوجدناهم فوق أسطح دباباتنا.. وفوق أعناقنا.. يطعنون ويذبحون بلا رحمة.. لقد كانوا متوحشين فوق الوصف.. وملامحهم مخيفة تزرع الرعب في القلب.. وحتى الآن لا أعرف من أين هبطوا لنا.. لا تفسير لديّ حتى الآن.
ويعلق الكاتبان: هذا جزء من شهادات عشرات الجنود الذين شاركوا في معركة الزيتية، وهذه الشهادات ليست أحسن حالاً من شهادات قادتهم في المعركة، فقد اخترقت الهزيمة قلوب الإسرائيليين وتركت جرحا غائرا في العقيدة القتالية للجيش الذي لا يقهر.
ويواصل الكاتبان في مؤلفهما الهام سرد اعترافات القادة الصهاينة في معركة الزيتية فيقولان: يقول الملازم أول “حنان تسائيف”: في مساء يوم التاسع من أكتوبر وبعد فقدان جيش المنطقة الجنوبية لعدد كبير من آلياته وجنوده في معركة الأديبة، بدأت عملية الدعم العسكري للقوات الجنوبية، وشمل الدعم لواء جولاني بكامل تجهيزاته، وكتيبتي مشاه ميكانيكا، ولواءين مدرعين أحدهما أمريكي، والآخر تم تجميعه من فلول قوات المنطقة الوسطى بسيناء، وكانت الدلائل تشير إلى أننا مقبلين على عملية كبيرة، فصدرت الأوامر في فجر العاشر من أكتوبر للاستعداد لتلقي الأوامر، وفي الثامنة صباحا تحركت كل القوات بقيادة الجنرال شارون باتجاه ميناء الزيتية، استغرق المسير قرابة الساعتين، وقبيل الزيتية بحوالي 12 كيلومترا اندلعت المعركة بشكل مفاجئ، حيث باغتتنا القوات الخاصة للعدو بطريقة لم نتوقعها أبدا، فالطريق كان سالكا والمنطقة مكشوفة من كل الجهات، ولم تكن هناك أية إشارة توحي بالخطر، لكن هذه القوات قامت بالاختفاء في حفر برميلية على شكل مربع ناقص ضلع، وما أن ولجت قواتنا فيه، حتى خرجوا من جحورهم ليقذفوا آلياتنا بمئات القذائف المضادة للدروع وصواريخ “ماليتيكا”، استمر القصف الصاروخي قرابة الساعة وكنا نرد على مواقع إطلاق الصواريخ لكن الغلبة كانت لهم، فتراجعت الدبابات بعدما تمكن جنود العدو من اختراق صفوفنا ومهاجمتنا عن قرب، لقد كانوا يتسلقون الدبابات ويفتحون أغطيتها العلوية ليفجروا أطقمها بالقنابل اليدوية، حتى أن بعض الدبابات وسط هذه الفوضى أطلقت النيران على بعضها البعض، فوقعت خسائر كبيرة، إضافة إلى أن قوات المشاة وجولاني كانت عاجزة عن التعامل مع العدو في ظل هذا الارتباك، فصدرت الأوامر بالانسحاب لإفساح المجال للقتال الفردي بين قواتنا وقوات العدو، في الوقت الذي اتصلنا بالقيادة نطلب الدعم الجوي.
ويضيف الكاتبان على لسان “تسائيف”: “لم تستجب القيادة لطلبنا وتركتنا نواجه مصيرنا بدم بارد”. ويورد الكاتبان شهادة أخرى لأحد ضباط قوات “جولاني” ـ نخبة الجيش الصهيوني ـ، وللإشارة فإنه يهودي من أصل مغاربي، وهو المقدم “فايز كوكبي”، الذي يقول: للأسف تأهلنا في معاهدنا العسكرية على نظريات خاطئة دفعنا ثمنها في الزيتية، لقد أوهمنا قادتنا وأساتذتنا أن عدونا ضعيف وجبان ولا يجرؤ على مواجهتنا بشكل مباشر، لكنني اكتشفت في الزيتية مدى همجية ووحشية هذا العدو.. لقد كانوا دمويين لأبعد مدى.. كانوا يجتزون رؤوس الجنود ويتسابقون للالتحام بنا، لكنهم كانوا على درجة عالية من الكفاءة والتدريب، وكانوا يمتلكون مهارات عالية في مجال القتال الفردي، يجيدون استخدام السلاح الأبيض والاشتباك، وأيضا كانت لياقتهم البدنية عالية، وكان واضحا أن قادتهم لقنوهم أساليب كسر العنق والعمود الفقري، مما يدل على أنهم نالوا قسطا من التدريب على الرياضات القتالية، وكل تلك الأشياء لم تتوافر في معاهدنا ولم نتدرب عليها، وهنا برزت أخطاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وظهر التفوق الحقيقي للعرب.. إن معركة الزيتية وبكل ما تحمله من ذكريات مؤلمة يجب أن تكون درسا لتصحيح أخطائنا، فالعدو يحسب لكل شيء حسابه، ويبتكر في أساليب القتال، في حين أننا لازلنا نهندس خططنا على الهجمات الخاطفة والتفوق التكنولوجي العسكري، وقد أثبتت حرب يوم كيبور أننا لم نكن نمتلك سوى السلاح، أما العدو فقد نجح في توظيف عقله وجسده ثم سلاحه.
لاشك أن كتاب “حرب يوم الغفران، اللحظة الحقيقية”، يكشف بعض جوانب معركة الزيتية، لكن مذكرات “أهارون ياريف”، مدير جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية الأسبق، تكشف تفاصيل أكثر دقة حول هذه المعركة.
“ياريف” يقول: حرب الغفران تكشف بجلاء عن خبث وخداع العرب، إنهم كالحرباء المتلونة، لم نتمكن من قراءة نواياهم قبيل الحرب وأثناءها، وفشلنا في ترجمة خططهم القتالية ـ وبعد سرده لعدة مواقع يدلل فيها على “خبث” العرب ـ على حد وصفه ـ يصل ياريف لمعركة الزيتية، فيقول ـ: لقد نجحت مخابرات العدو في كشف خطتنا، وبسرعة فائقة استعدوا لإفشالها، كانت أعداد دباباتنا وجنودنا تفوق عددهم وعتادهم، فشرعوا في تحصين الميناء وحركوا الكتائب المدرعة الجزائرية من الأديبة للزيتية، ووصلتني إشارة عاجلة تفيد بأن العدو يعلن حالة التأهب العسكري في الميناء، وفي تلك اللحظات أدركت أن العدو يعرف وجهتنا وأن الأديبة غير محصنة بالمرة، فأرسلت للقيادة إشارة أبلغهم فيها بحقيقة الموقف مرفقة باقتراح معاودة مهاجمة الأديبة، فعدلت القيادة على وجه السرعة الخطة، وقررت مهاجمة الزيتية والأديبة معا، على أن ينشطر جزء من القوات عند “مفرق عتاقة” ـ على بعد 12 كيلومترا من الميناءين ـ ويتجه للسيطرة على الأديبة ثم يلتف من الخلف على الزيتية لدعم القوات الرئيسية وتطهيرها والاستيلاء عليها، وهنا أتذكر ـ يقول ـ ياريف ـ الجنرال “حاييم بارليف” الذي خلف الجنرال “جونين” في قيادة المنطقة الجنوبية، أتذكر ضحكته العالية التي لاتزال تتردد في أذني ومقولته “لقد ابتلع العرب الأغبياء الطعم”، هكذا وتحت مظلة هذه المعلومات تحركت قواتنا، وانتظرنا بفارغ الصبر والثقة أول الأنباء عن سقوط الميناءين، لكن طال الانتظار ولم يصل هذا الخبر، بل وصلتنا أنباء السوء التي لم نكن نسمع سواها في تلك الأيام العجاف.
الركوع الإسرائيلي للجزائر:
ويواصل ياريف قائلا: اكتشفنا أن العدو وضع خطة مغايرة، فقد أدرك مسبقا أن تحصين ميناء الزيتية وإمداده لن تحول دون سقوطه في يدنا، لقد اخترقوا عقولنا بطريقة لا تفسير لها سوى انهم استخدموا نوعا من السحر الأسود فسخروا شياطينهم لتخبرهم بكل كبيرة وصغيرة، وحتى لو كان هذا الاحتمال صحيحا، فكيف تمكنوا من نقل قواتهم بسرعة وسرية إلى موقع المعركة؟ ـ يتساءل ياريف ـ ثم يقول: لقد نقل العدو قواته الخاصة وكانت مشكلة من الكتيبتين 145 صاعقة مصرية وكتيبة صاعقة جزائرية إلى مفرق عتاقة، وهي نفس النقطة التي قررنا استخدامها لقسم القوات المتجهة للأديبة والزيتية، وعوضا عن تدعيم هذه القوات بالآليات والدبابات، قام بتزويدها بعدد كبير من مضادات الدروع والصواريخ والرشاشات الثقيلة، وأمر هذه القوات بحفر الأرض والاختباء بها، نظرا لأن المنطقة مكشوفة، وهو ما أوحى لقواتنا التحرك باطمئنان، وبهذا أنقذ العدو آلياته من دمار محقق في معركة محسومة لنا سلفا، وأمن الميناءين المستهدفين، لكن ما يثير الدهشة أن قيادة العدو وضعت جميع أوراقها في تلك الحفر، فبالنسبة لي وللقيادات الإسرائيلية عموما لا يمكن أن نعتمد على مثل هكذا خطة لمواجهة عملية بهذا الحجم، لكن ثقة العدو في قواته الخاصة والأسلوب الذي استحدثه في القتال جعلته يقدم على هذه الخطوة دون تردد، فقد نشر الكتيبة الجزائرية في الخطوط الأمامية لتضرب قواتنا من الخلف، ونشر الكتيبتين المصريتين في القلب والميمنة والميسرة، فوقعت عملية التطويق الخطيرة.
وقدر لخطة العدو أن تنجح، لتصبح صفحة سوداء في تاريخ العسكرية الإسرائيلية، فلم يسبق أن خسرنا قرابة اللواءين مدرعين ومئات القتلى و300 أسير في معركة واحدة، كما لم يسبق للعرب النجاح في التنسيق القتالي لهذا الحد، وبلغت الخسائر الحد الذي ركعت فيه »إسرائيل« وامتثلت لأوامر العرب، ففي مفاوضات تبادل الأسرى، كان هناك 80 أسيرا إسرائيليا لدى القوات الجزائرية، ورفضت القيادات الجزائرية تسليمهم، بالنظر إلى أننا ليس لدينا أسرى منهم، وبعد مفاوضات استمرت ليومين أصر الجزائريون على مقايضة الأسير بعشرة أسرى على نفس الرتبة العسكرية، فلم يكن أمامنا خيار آخر.