فيروس كورونا هو نهاية “نهاية التاريخ”

أضيف بتاريخ: 18 - 04 - 2020

– لي جونز
– ترجمة: علي إبراهيم

سوف تؤدّي أزمة الفيروس التاجي والركود المصاحب لها إلى نظام سياسي واقتصادي جديد- ولكن يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان اليسار أن يرتقي إلى اللحظة التاريخية.

سنة 1989، أعلن المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما نبوءته حول “نهاية التاريخ”: أي انهيار جميع البدائل الموجودة عن الليبرالية. لقد انهار هذا الأمر الذي كان يبدو لسنواتٍ أنه لا يمكن الوصول إليه. الفيروس التاجي هو المسمار الأخير في نعشه.

“نهاية التاريخ” كان لها مظهران رئيسيان. الأول هو السوق كمبدأ تنظيمي مهيمن. “لا يوجد بديل” لمنافسة السوق كما قالت مارجريت تاتشر. وهذا لا ينطبق فقط على الشركات، بل على الأفراد أيضاً، حين يسارعون للتوظيف والتطور، من خلال الاستثمار في “رأس مالهم البشري”. تمّت خصخصة الخدمات العامة وإخضاعها لمنطق السوق بشكل متزايد، حيث خضع كلّ شيء من الرعاية الصحية إلى التعليم العالي لمنطق المنافسة، باسم “الاختيار” و”الكفاءة”.

المظهر الثاني تمثّل بإفراغ الديمقراطية من محتواها وصعود الدولة الناظمة. منذ أواخر الثمانينيات، انهارت المشاركة السياسية في الديمقراطيات المتقدمة. قام اليمين الجديد بقيادة تاتشر وريجان بتفكيك التسوية الطبقية التي تمّ التوصّل إليها بعد الحرب، والتي عززت وصول النقابات والأحزاب الاجتماعية الديمقراطية إلى عملية صنع القرار. تم سحق النقابات بينما تحوّل الاشتراكيون الديمقراطيون بشكل يثير الشفقة إلى اليمين. الشعور المتزايد بأن السياسيين “كلهم متشابهون”- استنساخ لا حياة فيه، يرددون عقيدة نيوليبرالية جديدة مثل الببغاء- تسبّب بانسحاب الناس إلى حياتهم الخاصة. انخفض إقبال الناخبين بشكلٍ حادّ. حكمت النخب السياسية بشكل متزايد حالةً من الفراغ، حيث وقف المواطنون النشطون ذات مرة. تلقّت تلك النخبة الإرشادات وسعت إلى امتلاك الشرعية من خلال علاقاتها مع بعضها البعض أكثر من علاقتها مع ناخبيها.

بعد أن ظهر أنّ هذا الأمر غير متاح لمدة عقدين، بدأ هذا النظام في الانهيار مع الأزمة المالية العالمية سنة 2008. كما هو الحال دائماً في ظل النيوليبرالية، تحركت الدولة لحماية رأس المال من خلال خطة إنقاذٍ ضخمة، وحوّلت الأزمة المالية إلى أزمة ضريبية. تبع ذلك، في أوروبا، سياسة تقشف قاسية، لم يكن لدى الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية المتعفنة أيّ ردٍّ عليها. تصاعد السخط ولكن دون نتيجةٍ ذات مغزى. في عام 2011، اندلعت أعمال شغب عبر المدن البريطانية. أعادت حركة (Occupy- احتلّوا) تسييس المسائل الاقتصادية، اجتاحت حركة المربعات إسبانيا واليونان، هزّ الربيع العربي الأنظمة الاستبدادية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. برزت الأحزاب الشعبوية.

قدم الشعبويون اليساريون بصيص أملٍ قصير للبعض، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً. لقد استسلموا للإغراق النقدي الذي قام به الاتحاد الأوروبي في اليونان. تعايشوا مع أحزاب الوسط الفاقدة للمصداقية في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا. فشلت ردة الفعل التي تمثّلت برجلين في السبعين من العمر، بيرني ساندرز وجيريمي كوربين، في توسيع جاذبيتهما أبعد من قاعدتهما الاشتراكية التقليدية، في الوقت ذاته الذي واجها فيه تخريباً لا هوادة فيه من الأحزاب السياسية الوسطية التي اعتمدا عليها كرافعةٍ لهما. لم يكن الشعبويون اليساريون، خاصة في أوروبا ،مستعدين ببساطة للقطع الجذري مع الوضع الراهن. إنّ إحجام كوربين عن احتضان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- وهو الشكل الذي اتخذته الثورة المناهضة للمؤسسة في بريطانيا- كان الرمز للمشكلة.

إنّ جائحة الفيروس التاجي تقتل النظام النيوليبرالي بطريقةٍ لم يستطع اليسار المتناقص العديد القيام بها. إنّ “السوق الحرة”- التي يفترض أنها موطن لعمالقة الصناعة ورأسمالييّ المغامرة الوعرة- لا يمكنها تحمّل الفيروس لمدة خمس دقائق. يذوب المستثمرون في الهستيريا. تتعرّى اللاعقلانية الجوهرية للأسواق مع تأرجح الأسهم بشكل كبير من ساعةٍ إلى أخرى.

نظام ما بعد نيوليبيرالي

الدولة الناظمة الجوفاء غير مهيّأة لمواجهة الفيروس أيضاً. في شمال شرق آسيا، حيث لا تزال الروابط الاجتماعية أقوى ولا تزال الدول تتحمل مسؤولية مباشرة أكبر عن المخرجات الاقتصادية والاجتماعية، تمّ احتواء Covid-19 بشكل فعّال- في الوقت الحالي على الأقل. على النقيض من ذلك، تعرضت دول أوروبا ما بعد السيادة الوطنية للخراب. حيث يُلحق الفيروس دمارا بالمجتمعات التي عصف بها بالفعل عقد من التقشف الذي فرضه الاتحاد الأوروبي. منذ سنة 2011 إلى سنة 2018، طلب الاتحاد الأوروبي من الدول الأعضاء خفض الإنفاق على الرعاية الصحية أو الاستعانة بمصادر خارجية 63 مرة. تشهد الكارثة الإنسانية التي تتكشف في شمال إيطاليا- حيث ظل الدخل ثابتاً طوال 20 عاماً، وتجاوزت وفيّات فيروس كورونا الصين- على تخلي النخبة السياسية عن مسؤوليتها التاريخية في توفير الأمن للمواطنين. إسبانيا ليست بعيدة. واليونان، التي انهار نظام الرعاية الصحية فيها وسط الأزمة الاجتماعية التي سببها التقشف الأوروبي، ستتبعهما بالتأكيد.

تُظهر الاستجابة في معقل العالم النيوليبرالي- بريطانيا والولايات المتحدة- بشكل أكثر حدة كيف ينهار النظام النيوليبرالي تحت وطأة حالة الطوارئ الصحية العامة هذه. ففي غضون شهرٍ تخلت كلتا الحكومتان عن سياساتٍ اعتبرت غير قابلة للتغيير لعقودٍ من السنين، متّبعةً مساراتٍ كانت تنددّ بها وتعتبرها “اشتراكية” أو “شيوعية” قبل أيامٍ فقط.

في بريطانيا، بدأ هذا المسار يتجلى بشكلٍ أكبر مع تصاعد أزمة كوفيد 19، وذلك بفضل التحول الناشئ في حزب المحافظين ما بعد تاتشر في عهد بوريس جونسون. تم طرد صقر العجز في الميزانية ساجد جافيد من منصبه كمستشار من أجل إمرار ميزانية شبه كينزية، تتضمن زيادة الإنفاق العام والاستثمار في البنية التحتية و 30 مليار جنيه استرليني للتحفيز المالي.

بشكلٍ غير مفاجئ، تلقى الأغنياء والمالكون المساعدة الفورية، مع 350 مليار جنيه استرليني من ضمانات القروض وإعفاءات الأعمال والرهن العقاري. و أعقب ذلك بسرعة إيقاف الإيجار وتعهد استثنائي بدفع 80 في المائة من الأجور حتى 2500 جنيه إسترليني، في البداية لمدة ثلاثة أشهر وبعد ذلك تمّ تمديد المهلة طالما كان ذلك ضرورياً، بالإضافة إلى 7 مليار جنيه إسترليني إضافية في الإنفاق الاجتماعي. تعهدت المستشارة الجديدة، ريشي سوناك، بتقديم “مبالغ غير محدودة” من القروض بدون فوائد. وبالمثل وعد بنك إنجلترا بكميات لا حدود لها من الأموال الجديدة. والمبلغ الإجمالي الذي تم التعهد به بالفعل يعادل 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي البريطاني. ويجري التخطيط لحافز أكثر إثارة للدهشة بقيمة 2 تريليون دولار يتم تقديمها من الدولة.

بما أن الأرثوذكسية النيوليبرالية قد تم التخلي عنها بسرعةٍ فائقة، فإن الأفكار اليسارية، التي كانت تعتبر في السابق أكثر من باهتة، تم تبنيها بشكل فعّال من قبل الحكومات اليمينية. ربما قلة هم الذين سمعوا عن النظرية النقدية الحديثة (MMT): أي الادعاء بأن الدول ذات السيادة والمُصدّرة للعملة لا يتم تقييدها مالياً على الإطلاق، ويمكنها إصدار الأموال كما تشاء، لا يحصل التضخم إلّا إذا تمّ تجاوز القدرات الإنتاجية للمجتمع. هذه النظرية MMT هي الآن الأرثوذكسية الجديدة فعلياً.

لقد حاول النيوليبراليون تجنب هذا الاستنتاج منذ الأزمة المالية العالمية، عندما تم إصدار مبالغ هائلة من العملة – يطلق عليها بشكل ملطف “التسهيل الكمي” (طباعة العملة- من المترجم)- لصالح البنوك. 4.5 تريليون دولار في الولايات المتحدة، وأكثر من 400 مليار جنيه استرليني في بريطانيا، و 1.1 تريليون يورو في منطقة اليورو- لكن التضخّم ظل ضئيلاً. لاحظ الناس العاديون “شجرة المال السحرية” هذه (كما قالت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي) وبدأوا يطالبون بهزها- “التسهيلات الكمية للناس”.
الآن اهتزت الشجرة- ولكن من اليمين وليس من اليسار. في الواقع، يحث كتّاب الأعمدة اليمينيون حكومة بوريس جونسون بشكلٍ ملحاح على “تبني الاشتراكية على الفور لإنقاذ السوق الحرة الليبرالية. بتشجيعٍ من الوسطيين، سينتهون بتطبيق “معظم برنامج جيريمي كوربين”، يعترف وزير من حزب المحافظين.

ومن أين تأتي كل هذه الأموال؟ من الضرائب؟ من الواضح أن الأمر ليس كذلك، لأن الدخل الضريبي يتقلص بحدّة. صقور العجز طاروا جميعاً واختفوا. من الاقتراض إذن- ولكن، كما يقول أتباع النظرية النقدية الحديثة، الأمر عبارة عن اتفاق محاسبي. لقد اعترف رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق بن برنانكي في عام 2009، قائلاً “نحن ببساطة نستخدم جهاز كمبيوتر في تحديد حجم الحساب”.

لحظة تاريخية

هنالك فكرة أخرى تطرح على الهامش، وهي الدخل الأساسي الشامل – حيث تقوم الحكومات ببساطة بتقديم أموال مجانية للأفراد- هذه الفكرة تزداد حضوراً. قبل بضعة أشهر، كانت فكرة يسارية، تقتصر على التجارب الصغيرة في بلدان الأطراف مثل فنلندا. يطالب اقتصاديو الوسط الآن “بتعويض غير محدود” عن الأجور الضائعة في جميع أنحاء العالم. دعم أكثر من 170 برلمانياً بريطانياً الفكرة قبل دعم الوزيرة سوناك للدخل الذي يتجاوز متوسط الأجر، بعيدًا عن كونه دخلاً “أساسياً”. حتى يبدو أن إدارة ترامب مستعدة “لكتابة الشيكات” لمئات الملايين من الأمريكيين، بناءً على نصيحة الشيوعيين سيئي السمعة مثل ميت رومني. “هذا ليس الدخل الأساسي الشامل الذي طالبنا به”، يحتجّ اليسار- ولكن السؤال لماذا يحدث ذلك؟ أي تنفيذ الفكرة من قبل اليمين.

وفي الوقت نفسه، يتمّ ارتجال نماذج القيادة والتحكم بشكل سريع حيث أثبت الدولة الناظمة أنها غير كافية للاستجابة للأزمات. أصبحت أنظمة المراقبة والتحكم في الصين وكوريا الجنوبية نماذج للدول الغربية التي تكافح من أجل التغلب على فيروس كورونا. تمّ إغلاق الحدود، ونشر الشرطة والجيوش، وتعبئة القوى العاملة، وتنفيذ عمليات حظر التجول. إن الدولة بريطانية غير المعتادة على سياسة صناعية ذات مغزى، ناهيك عن التخطيط، توجّه الشركات الآن لتصنيع 20.000 جهاز تنفس في أسبوعين باستخدام التصاميم والمكونات المحلية. كما قامت إسبانيا بتأميم المستشفيات الخاصة بين عشية وضحاها.

لتوضيح الأمر، فإنّ أياّ من هذه التدابير لا تعني أنّها ستكون كافية أو فعالة- إذ أتى الكثير منها في وقتٍ متأخر جدّاً، ولا مفرّ من أن خدماتنا الصحية التي تم تجويفها سوف تغرق. كما لا يعني هذا أيضاً أن الكثير من الناس، لا سيما الفقراء، لن يتعرضوا للمعاناة- فقد تم تسريح الملايين بالفعل بينما يضطر الآخرون إلى العمل في ظروف غير آمنة. إنّ ذلك لا يعني أنّ الحكومات اليمينية وجدت الاشتراكية فجأة- إلّا في حال اعتبار “اشتراكية الكارثة” اشتراكية.

ولا يحدث هذا التحول بنفس المعدل في كل مكان. من الصعب هزّ أو التخلص من التعفن المميت للتكامل الأوروبي. كان البنك المركزي الأوروبي، وهو حصن النيوليبرالية التي تحولّت دستوراً في الاتحاد الأوروبي، بطيئاً في الإعلان عن إجراءات التسهيل الكمّي، حتى أن محافظته عمّقت معاناة إيطاليا من خلال الإشارة إلى أنها لن تدعم عوائد سندات روما. كما كانت حكومات الاتحاد الأوروبي أسرع في فرض ضوابط اجتماعية استبدادية من إدراك أن التحفيز الضريبي، وليس النقدي، مطلوب بشكل عاجل. ومع ذلك، من المقرر أن تعلن الحكومة الألمانية التي تتبع سياسة تقشف صارمة عن حزمة إنقاذ بقيمة 500 مليار يورو، في خرقٍ “لقواعدها الضريبية”.

من الواضح أننا نعيش لحظةً تاريخية، يمكن مقارنتها بالحرب العالمية الثانية- لكن ليس بهراء “روح الصمود” التي يتم بيعها في مكان آخر. كانت الحرب العالمية الثانية هي التي أنهت أخيرا الكساد الكبير، بفضل التعبئة التي قادتها الدولة وبفضل تنسيق الاقتصاد. رأى السكان المدمرون بوضوح أكاذيب عدم التدخل في الثلاثينيات: كان هنالك بديل للسوق. من الواضح أن الدولة لديها سلطات استثنائية لتلبية الاحتياجات والأهداف الجماعية. لا يمكن العودة إلى “العمل كالمعتاد”. ولدت دولة الرفاهية ما بعد الحرب من هذا الاعتراف، في ظل نظام ستالين السوفياتي، الذي أثبت بالفعل قوة الدولة بأسلوبها الدموي.

واليوم، تلقي جمهورية الصين الشعبية هذا الظل. إن النظام الشيوعي الصيني “سلطوي ووحشي وقبيح”. على عكس التصورات الغربية، فإن نظام الحكم فيها يعاني أيضاً من خلل وظيفي للغاية، و تمزقه المنافسة الداخلية والخلل البيروقراطي- مما أعاق الاعتراف الكامل بانتشار COVID-19 وإدارته. ومع ذلك، تمكن النظام في نهاية المطاف من احتواء الفيروس، ويطالب العديد من الليبراليين واليساريين الغربيين الآن بفرض الحظر على الطريقة الصينية. لدى بكين الآن حزمة واسعة كافية للتحايل على الحكومات الغربية وتقديم مساعدات ضخمة للدول المنكوبة مثل إيران وإيطاليا- بل قام الملياردير الصيني جاك ما بإرسال المساعدة إلى الولايات المتحدة- في حين يرفض الاتحاد الأوروبي توسلاّت إيطاليا للمساعدة بل يفرض الغرامات على روما بسبب الإنفاق المفرط.

في الوقت الحالي، هناك عداء واسع النطاق للصين- يغلي في كره الأجانب وحتى الهجمات العنصرية المروعة على العرق الآسيوي. لكن هذا العداء قد لا يدوم. إن استجابة الولايات المتحدة الفوضوية تماماً لـ Covid-19 ستظهر بشكل متزايد في تناقضٍ صارخ مع الكفاءة الاستبدادية الواضحة للصين. وبينما تقدم الصين المساعدة، تسرق الولايات المتحدة معدات الاختبار من إيطاليا وتزعم أنها تحاول الاستحواذ على الشركات الأجنبية التي تبحث عن اللقاحات، من أجل خدمة “أمريكا أولاً”. من الواضح أن عصر الهيمنة الأمريكية قد مات ودفن. من المفترض أن تدرك الحكومات الغربية الأخرى أنه إذا لم تتمكن من إدارة الوباء بنجاح، مقارنةً مع نظامٍ مستبد، فسوف يصدر الحكم بالقبض عليها. إنّه حافز آخر للتخلي عن الإرث الليبرالي حيثما كان ذلك ضرورياً.

عميان اليسار

كل هذا أمر مربك للغاية ليسارٍ أصبح مهووسًا بشكل متزايد بـ “المقاومة”، والمعارضة الغريزية لكل ما يفعله اليمين بينما يفتقر هو إلى أيّ بديل منهجي حقًا.

تتجسد المشكلة من خلال الناقد والمنظّر المشهور جورجيو أغامبين، الذي يتبنى منهج فوكو في تحليل الخطاب، والذي علا صراخه ضد “تدابير الطوارئ المحمومة وغير العقلانية وغير المبررة على الإطلاق المعتمدة لوباء مفترض”، بينما يموت مواطنوه بشكلٍ جماعي.
حتى المعلّقون اليساريون في وسائل الإعلام الرئيسية تعاموا عن الأمر. بالكاد يجفّ حبر مقالاتهم حتى يبدأون التساؤل- “حسناً، حسناً، ساعدت الحكومة فلان، ولكن ماذا عن فلان؟”- قبل الإعلان عن حزمة مساعدات أكبر. كان اليسار المناهض للتقشف يركز بشكلٍ حصري على المطالبة بإنفاقٍ حكومي أعلى لفترة طويلة، ولكنّه لا يعرف كيف يتصرف به عندما يحصل عليه. في الانتخابات العامة في بريطانيا في ديسمبر الماضي، خاض حزب العمال الانتخابات ببرنامجٍ يتضمن الالتزام بالقواعد الضريبية التي مزقتها حكومة المحافظين. الأمر كما وصفه أحد مستخدمي تويتر بلطفٍ شديد، أقصى اليسار يدعو إلى “الشيوعية الفاخرة المؤتمتة بالكامل”، لكن بوريس جونسون قدم “اشتراكية الحجر الصحي في بلد واحد”.

هذا مهم على وجه التحديد لأن النظام القديم قد مات والجديد يجري تشكيله تدريجياً يوماً بعد يوم. لا تعرف النخب الحاكمة كيف ستنتهي هذه الأزمة. يجددون معلوماتهم بشكل يومي، مما يجعلهم يتأقلمون بالتدريج. بهذا المعنى، كل شيءٍ معلّق في الهواء. المستقبل متروك- للخير أو للشر.

في مجتمعٍ ودولةٍ تعاني من خللٍ وطيفي مثل الولايات المتحدة، حيث تمّ تفريغ الرفاهية والديمقراطية بأعمق شكل، من السهل تصور مسار استبدادي. الأغنياء يفرّون بالفعل مذعورين من المدن. لا يمكن المزج بين الروابط الاجتماعية المتوترة والفقر المدقع وانتشار امتلاك السلاح في العديد من المدن الأمريكية بسهولة وبين نقص الغذاء وتدابير الاحتواء القاسية. ليس من الخيالي أن نتخيل اضطراباتٍ اجتماعية شديدة، تتطلّب من الجيش استعادة النظام. كما أنه ليس من الواضح كيف ستجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية في موعدها المقرر في كانون الأول/ديسمبر، على الرغم من ثقة الرئيس ترامب في أنّ الفيروس “سيختفي” بحلول نهاية شهر نيسان/أبريل.

تنطوي إجراءات الطوارئ التي اقترحتها حكومة المملكة المتحدة أيضاً على أكبر توسيعٍ على الإطلاق للسلطة التنفيذية في وقت السلم. إن الليبراليين قلقون (وهم محقّون) بشأن الحريات المدنية. لكن يجب على اليسار أن يكون أكثر قلقا بشأن الديمقراطية. ففي فرنسا، تمّ تمديد حالة الطوارئ “المؤقتة” التي أعلنت في عام 2015 ست مرات، كما تمّ جعل معظم الإجراءات دائمة بشكل فعلي من خلال مشروع قانون جديد لمكافحة الإرهاب. يوضح القمع الوحشي لمظاهرات السترات الصفراء، تحوّل هذا السلوك الاستبدادي إلى أمرٍ روتيني. لا ينبغي لليسار أن يطالب بحكومة وطنية للمساعدة في توجيه دولة استبدادية، بل أن يدافع عن الرقابة الديمقراطية.

في الواقع، ربما يكون السؤال الأكثر فظاعة الذي يطرحه الوباء هو: كيف يمكن للديمقراطية أن تعمل عندما لا يستطيع المواطنون العمل؟ يتم ارتجال نظامٍ جديد في المقام الأول من قبل السياسيين اليمينيين، في حين أن المواطنين عالقين داخل منازلهم، يدّخرون ورق التواليت ويشاهدون برامج شبكة نيتفليكس. يتطلب كبح المرض تباعداً اجتماعياً، لكن صياغة المستقبل تتطلب عملاً جماعياً. لقد نتج عن الحرب العالمية الثانية نظام أعطى العمال الأفضلية لأنهم كانوا منظمين بشكل جيد من خلال النقابات والأحزاب. واليوم، يبدو أن أفضل ما تأمله نقاباتنا وأحزابنا الاجتماعية الديمقراطية يتمثّل بالحصول على شراكةٍ جديدة، تم إنشاؤها في الواقع من قبل اليمين لأهدافه الخاصة به.

ليس من الواضح ما إذا كان بإمكان ديمقراطياتنا التمثيلية المجوّفة بالفعل محاسبة الحكومات. فقد علّقت أستراليا الجلسات البرلمانية حتى شهر آب/ أغسطس. كما تفرّق البرلمان البريطاني، الذي أصابه الفيروس بالفعل، لفترة راحة طويلة بعد إقراره مشروع قانون يمنح استراحة غير مسبوقة للسلطة التنفيذية.

هذه أسئلة ملحّة لليسار، لا توجد لها إجاباتٍ فورية أو سهلة. ولكن من الواضح أن الديمقراطية يجب أن تكون في بؤرة التركيز. لم يكن من الواجب أن تكون المحاججة حول تدخل الدولة بشكل أو بآخر في الاقتصاد، ولكن في اللحظة التي تم فيها تسوية هذا الأمر من قبل اليمين، فما الذي يميز اليسار الآن؟ الجواب يمكن أن يكون فقط المطالبة بالرقابة الديمقراطية والشعبية على هذا التدخل، لضمان أنه يخدم مصالح العمال، بدلاً من مجرد نفخ جيوب أصحاب رأس المال والأملاك. ولكن لكي يكون ذلك ذا مغزى، فإنه يتطلّب المشاركة النشطة من جانب الناس- وليس استقالتهم السلبية في حجرٍ صحيٍّ دائم.

هذا أمر صعب على وجه التحديد لأن نهاية التاريخ أضعفت حياتنا المجتمعية والسياسية، وتركت معظمنا مشتتاً ومذعوراً حتى قبل أن يحلّ وباء الكورونا.
الأولوية الملحّة هي ضمان الحفاظ على الوظائف الديمقراطية الأساسية أو استعادتها في أقرب وقت ممكن- من أجل إثبات أن الاستمرارية الديمقراطية لا تتعارض مع الصحة العامّة.

إنّ المهمة الأبعد مدًى هي إعادة تكوين الإحساس بالذاتية الجماعية من خلال هذه الأزمة. إن بصيص الأمل هو آلاف مجموعات المساعدة المتبادلة التي نشأت رداً على الأزمة. والتنظيم الملهم العفوي بشكل مستقل عن الدولة والأحزاب السياسية. من خلال هذه المجموعات، يتعرف الكثير من الناس على جيرانهم للمرة الأولى ويعيدون اكتشاف الممارسات الأساسية للتضامن. مع أنّ مهمتهم العاجلة هي فقط مساعدة الناس على البقاء على قيد الحياة لبضعة أشهرٍ مقبلة. إلا أنهم قد يكونون أساس التجديد الديمقراطي الشعبي عندما تنتهي عمليات حظر التجوال.

17-4-2020

*لي جونز، قارئ ومحلل للسياسة الدولية في كوين ماري، جامعة لندن. من مؤسسي موقع Full Brexit

المصدر:
https://tribunemag.co.uk/2020/03/coronavirus-is-the-end-of-the-end-of-history?fbclid=IwAR0jPugXPV-l0YHatsZDzVXCm1noA0mAfK0acB0XkSUIYfRHwduff7LRGvE