حكومة الشعب المأمولة ومجتمع الحقوق بين انحرافين، حكوموي ورئاسوي

أضيف بتاريخ: 04 - 11 - 2019

تصورنا سنة 2011 وما بعدها انه لن يحق حق لأحد وعن وجه حق إلا بتحقق واقعي لذهنية ما سميناه اذاك “مجتمع الحقوق” تواشجا مع قراءات وسياقات فلسفية واجتماعية غربية في الغالب الاعم وصاعدة منذ بداية الألفية الثانية. أولوية من حيث اسبقية الحقوق أو روح الحقوق في التاسيس للقوانين العادلة المنصفة عند كل لحظة “سلطة مؤسسة (بكسر السين الأولى)” وتساويا مع حقوق الآخرين وبتحقيق اي حق في إطار تحقيق حقوق الآخرين أو حقوق الجميع من أجل الجميع، بصيغة أخرى. واما السلطة المؤسسة بكسر السين فهي بالضرورة سلطة الشعب من خلال الشعب لا سلطة على الشعب والمجسدة لسيادة الشعب وبالتالي لحقوق الشعب بما فيها سيادته على أرضه وقراره ومؤسساته.

حينذاك، كنا نستخدم في الفهم وفي التحليل وللاستشراف عبارة “جمهورية المشترك الثوري الديمقراطي”. وكنا نختلف مع أنصار التأسيس الشكلي القانونجوي المجرد في مسألة حيوية هي العمق الاجتماعي لأي خيارات وطنية سيادية. لان الهدف الاول والاخير من كل تغيير على أساس حركة ثورية هو بالأساس تغيير النظام الاجتماعي بما يشمله من هرمية العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج والابداع وطبيعة المجتمع بكلمتين.

جمهورية المشترك الثوري الديمقراطي هذه هي في الأخير جمهورية الحقوق الاجتماعية أو الدولة الاجتماعية، وان كانت العبارة الأخيرة بنموذجها الموجود في الدول العشر الأولى من حيث كيفية الحياة أو من حيث شرف الوجود مثل الدنمارك والنرويج وكندا وهولندا وفنلندا وايسلندا والسويد…، في نفس الوقت صعبة المنال وبعيدة عن ان تكون منتهى الامال، لا من الناحية الاقتصادية وإنما من الناحية الوطنية السيادية وخاصة في الشؤون ذات البعد القومي والإنساني.

ها اننا اليوم أيضا وبعد عدة جولات انتخابوية متلاحقة على مدار ما يقارب العشرية، نجد أنفسنا في مهب الانحرافات تاسيسا على المهمات الثورية التي كانت مطروحة علينا سنة 2011 بالنظر إلى أهداف غالبية الشعب ولا سيما ما يتعلق بالكرامة الإنسانية والوجودية والوطنية. بيد ان تكثيف العوائق في جملة من الخدع الشعبوية المغلفة باملاءات الخارج تحت مسمى إصلاحات وما صاحبها من شعارات، لا يجعلنا نغفل مدى تفاقم هذه المعيقات ملخصة في ما يراد للوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية والبنوك ومسائل الدعم والجباية ونمط الإنماء بوجه عام بدل تصور انتقال استراتيجي للبلد يبدأ بتصور إصلاحات وطنية بديلة وسيادية ويعمق الخط الوطني المستقل.

في الواقع، لا النظرة الحكوموية الصرفة التي توهم بان خير تونس يكمن في تشكيل حكومة وفي تنفيذ ما تراه وان ادعت انه ترى ما يستحقه الشعب، وهنا تكون سلطة الحكومة هي المطلوب في حد ذاته ولا شيء آخر. ولا النظرة الرئاسوية الجديدة التي ترى في تخفيض احتكار السلطة الحكومية هذه وترى في تجسيدها الهلامي في حكم شخص الرئيس الذي يقف على فقاعة منتفخة من المطالبات الشعبية التي لا يبدو أنها ذات أبعاد اجتماعية عميقة لا تتحقق الا بقلب النظام الاقتصادي والاجتماعي رأسا على عقب ثم ملائمة ذلك في بنية حقوق جديدة؛ لا هذا ولا ذاك يحمل في قلبه قارب العبور بل يكدس حوله المياه المستعملة التي سوف تغرفه على طريقة التراب أكثر من الحفرة.

اننا اليوم أيضا نرى ما كنا نراه سنة 2011 لما كنا نتوقع (في حدود ما هو مكتوب) ان اقتصاد الفساد وعامل الإرهاب أساسا سوف ينهشان أي نسيج تغييري مفترض. ونرى ان كل مقومات الضرورة، ضروة تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي قائمة كما هي وهي على التوالي العامل الديمغرافي (الشباب) والعامل السوسيولوجي أو التغيرات المجتمعية (الحاجيات) والعامل الارهابي (سياسات الاستعمار ومصالحه الجيوسياسية) والعامل الجيواقتصادي (سياسة تخطيط وتوزع الثروة وخلقها واستخدامها) والعامل الجيواستراتيجي (دورة رأس المال المعولم والمندمج واستراتيجياته وآثارها الإقليمية) والعامل المحلي تحت- الانمائي في واقع خراب البنى التحتية المحلية وهو أهم أسباب انهيار كل المؤشرات الاقتصادية الناتج عن طبيعة التبعية وهي رأس الفساد ذريعة من لا ذريعة له هذه الأيام والشعار الذي يخفي حقيقة ان هذا الفساد هو نظام فساد أكثر منه جرائم فساد وهو إرادة استعمار متعدد الأطراف أكثر من كونه إرادة وكلاء محليين وعلاجه إصلاحات وطنية بديلة كما اسلفنا في نظام وطني شعبي واجتماعي وسيادي يستوجب كل التضحيات لا وهم ملاحقات وإجراءات سطحية من هنا وهناك.

لا يمكن في آخر التحليل توهم إنقاذ ممكن بخيار خبرائي تخصصي أو تكنوسياسي أو بخيار تركيب سياسي محاصصاتي. وبمعنى آخر، على نظام الحكم الحالي برلمانا وحكومة ورئاسة، إذا أراد تغيير نموذج الحكم وثقافته بالممارسة قبل الملائمة التشريعية ان ينظر إلى نفسه وإلى كله كما يلي:

1- ان يتصرف الرئيس كنائب شعب عن النواب وبالتالي عن عموم الشعب وليس عن الناخبين وعن أحزاب النواب وشعب حزب الرئيس وان لا يكون رئيس حكومة بدل رئيس الحكومة بدعوى حكومة الرئيس
2- ان يتصرف أي رئيس حكومة محتمل مهما كانت طبيعتها ومهما كانت تركيبتها وهيكلتها ومن يكون في شخصه، أن يتصرف كامين تنفيذي وليس كرئيس لكتلة أحزاب الحكم أو كتلة مكلفيه
3- ان يتصرف البرلمان فضلا عن مهامه الأخرى كبرلمان استشاري (ان يباشر مثلا في جلساته الأولى ما يشبه الاستفتاء النيابي حول طبيعة الحكومة وحول برنامجها استعدادا للحد الأدنى التأليفي أو حتى الحد الأقصى على قاعدة البرامج والقائمات الحكومية الاسمية اذا ما كان بد من جولة إعادة انتخابية)
4- ان يتصرف الجميع في تفويض قرار الشعب المفترض وهو قرار تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي طبق النموذج المجتمعي المأمول وهو مجتمع الحقوق ووفق النموذج الاجتماعي المأمول وهو دولة الحقوق الاجتماعية ووفق النموذج السياسي المقبول وهو نموذج حكومة الشعب.
صلاح الداودي