من يقرر الحكم في الجزائر؟ بين سيادة الشعب وارادة العسكر

أضيف بتاريخ: 16 - 08 - 2019

د. بلهول نسيم
(خبير أمني وعضو الهيئة العلمية في شبكة باب المغاربة للدراسات الإستراتيجية).

مقدمة:
دخلت الجزائر منذ 22 فيفري 2019، مرحلة جديدة على طريق الإنتقال نحو الجمهورية الثانية… بلازما المشهد السياسي لم يحسم بعد، ومستقبل الأمور لا يزال غامضا وعصية هي أمور تفكيك مصفوفة المشهد الجزائري. غير أن جزائر اليوم، أضحت تختلف تماما عن جزائر الأمس: فكثير من مؤرخي ورجال الدولة الفرنسية، وكثير من صحافييها اليوم، ينكرون وجود الجزائر كأمة، والماضي كدولة، بل وحتى كمجرد شعب على مر التاريخ1. ولقد وصف المؤرخ الأمريكي سبنسر “الحصانة الغيبية الجزائرية الشهيرة” برائع الوصف2 عندما قال: “وفد أظهرت الوقائع الثابتة أن مختلف الحملات الأوروبية ضد الجزائر قد أثبتت عجز السياسة الأوروبية (بالمعنى الجماعي) حينما جوبهت بأمة قوية في الداخل، مصممة، متحدة”3. وهو ما هو عليه الشارع الجزائري اليوم، متحسسا لمرحلة ما بعد بوتفليقة في نشوة انتصار جزئي ولكن مفخخ. وهذا في ظل انحسار خيارات النخبة الحاكمة والتي فقدت تركيزها وتوازنها التقليديين نظرا وعجز أدوات الحكم التقليدية عن الإيفاء بنفس المخرجات السياسية المعتادة.4
فتاريخ الجزائر اليوم والذي تصنع معالمه في الشارع هو مرآة لماضي أليم، أضحى منهاجا من خلاله تستخلص التجارب السابقة التي مر بها أبناء هذا الوطن، ولكن أيضا، وبالدرجة الأولى: أضحت وسيلة لغرس حب الوطن لدى الشباب الجزائري، فهو الإسمنت الروحي للجبهة الداخلية في الجزائر – إذ فيه الدين أيضا -، والإيديولوجي، والسياسي لتقوية وحدة الأمة، وتعزيز تماسكها، وتوطيد أركانها، وتعميق الوعي بتلك الوحدة، وإذكاء الإحساس بذلك التماسك، مما يعطيها في الداخل تصورا واحدا للحياة، ويجندها ويبرزها للخارج كرجل واحد، لتحقيق ذلك التصور بإرادة فولاذية، وعزم صارم، وتصميم جماعي موحد.. غير أن ثمة خشية من “قادة الظل” الذين امتهنوا لعبة “الدمى المتحركة”، والحكم من خلف ستارة وأبواب مغلقة… هي مخاوف ما زالت حاضرة في الشارع الجزائري بعد إعلان الرئيس المنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة عدم ترشحه لانتخابات مقبلة5، بل وحاضرة وبقوة، وهو ما يترك ملف معركة الإنتقال الديمقراطي مفتوحا في الجزائر، محملا بمفاجآت عديدة، ما زالت ممكنة.
سيحاول هذا المقال تسليط الضوء على أبرز معالمها وتطوراتها الهامة والتي يطمح من خلالها الحراك الشعبي تعبيد طريق الإنتقال للجمهورية الثانية، وإن كانت لا تضمن السير عليه حتى نهاياته المظفرة وخواتيمه السعيدة. والأمر من قبل ومن بعد، رهن بدرجة النضج الكامل واليقظة والمسؤولية عند مختلف الأطراف سواء في الشارع أو الحكم أو المعارضة أو حتى الجيش.
1. جدل الحراك الشعبي والسلطة في الجزائر: بين النصر المبطن وضبط النفس المستمر
بعد أن قام (الرئيس) المنتهية ولايته بسحب ترشيحه، إلا أنه ومن خلال بطانة المرادية لم يتنح، وهذا في إطار البحث عن سيناريو مخرج للتمديد في عهدته الرابعة بسنة إضافية على أقل تقدير، ردا (منه) على ما عرفه نطاق الإحتجاج من اتساع6: حيث انتشر المتظاهرون في شتى المدن والولايات الجزائرية في انتفاضة كانت فريدة من نوعها، من حيث انضباطها وسلميتها وتحضّر جميع المشاركين فيها. غير أن مجموعة القرارات التي اتخذها (الرئيس)، دفعت إلى الإعتقاد بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، فثمة خارطة طريق للإصلاح السياسي لوحت بها رسالة (الرئيس): من تنظيم “لندوة وطنية” ممثلة لكل الأطياف الجزائرية، منوط بها إعداد دستور جديد، بعد الإستفتاء عليه. إلى جانب تحديد مواعيد إجراء الإنتخابات التشريعية والرئاسية، وهذا في إطار هيئة مستقلة جديدة لمراقبة الإنتخابات7. كل ذلك، في إطار حبل ممدود من التغيرات والقرارات المهمة. وهي القرارات التي استقبلها الجزائريون بكثير من الفرح المبطن بالحذر والتحسب: فكثيرة هي تلك الأسماء التي صوبوا نحوها سهام غضبهم لا تزال في مواقعها مستفيدة من مناورة التمديد من ولاية (الرئيس) وهو ما قد يعني تمديدا لأولئك المسؤولين عن سنوات الفساد وركود الحياة السياسية في الجزائر. ما يحيي مخاوف إفراغ تلك الخطوات الإصلاحية من جوهرها، لتتحول إلى مجرد صيغة تحسينية شكلية لا قيمة لها، في إطار استمرار طقوس “حرس النظام القديم”8 الذين امتهنوا لعبة “الدمى المتحركة”، والتلاعب بالمشهد من خلف الستار.
هي مخاوف عبأت الشارع الجزائري بيقظة ووعي قويين، ما دفع بكثير من الدعوات من أجل حفظ زخم الشارع واستمراره في الضغط على مؤسسة الحكم والقرار في الجزائر، من منطلق أنه أضحى الضمانة المتبقية من أجل التحول الديمقراطي الحقيقي9. فالجزائريون، منذ 22 فيفري 2019، شعبا وسلطة ومعارضة، برهنوا للعالم أنهم استفادوا أيما استفادة من دروس ماضي الجزائر وخاصة العشرية السوداء، وهو ما دفع أجهزة الحكم والمؤسسات الأمنية إلى الركون إلى ضبط النفس قدر المستطاع. بينما اختارت الملايين المملينة من الشعب المتظاهر شعار “السلمية” والمرابطة عليها، في نضج وذكاء استطاع من خلالها المتظاهرين التمييز بين المعارضة الحقيقية وتلك (صنيعة أجهزة الحكم) من جهة، وحرصهم على ممتلكات الدولة والتفاعل الإيجابي والسلمي مع مؤسسات البلاد والجيش الوطني الشعبي من جهة أخرى10. فمعارضة النظام في الشارع الجزائري لا تعني في قاموس الجزائريين المتظاهرين تدمير الدولة، وهذا يعد أحد أهم الدروس التي يجب أن تتعلمها سلسلة الإنهيارات والفشل في تجارب ما يسمى “بالربيع العربي”. لتطفو في الجزائر، عند كل أزمة وطنية، ما أسماها سبنسر “بالحصانة الغيبية الجزائرية الشهيرة” في أسمى تجلياتها الحضارية، قاطعا الشارع الجزائري من خلالها رأس الفتنة المطلة من الخارج والمتطلعة نحو التدخل في المشهد السياسي الجزائري الداخلي، رافعين شعارات منددة ورافضة لمحاولات التدخل الأمريكية والفرنسية في شؤونهم الداخلية11. ليتم بعدها نقل معركة الشعب إلى عواصم الدول موضوع المناورة ومحاولات التدخل، والتي وضعت في حالة استنفار ومساءلة أمام شعوبها، بل كشفت عن وجهها الإستعماري الحقيقي وشكل الديمقراطيات التي تدافع عنها. ولقد لعبت في ذلك الجالية الجزائرية دورا مهما وهذا من خلال استنساخ مشهد الشارع الجزائري في عواصم تلك الدول، حيال تلك الصيغ التحريضية التي كانت تعمل من أجل إلحاق الجزائر بالمصائر الليبية واليمنية والسورية.12
لقد أصبحت الساحة السياسية الجزائرية محاصرة بين ركود النظام وانجراف الشارع، فبركان آلاف الشباب العاطلين عن العمل وزلازل البؤس والظلم الإجتماعيين اللذين كانا خامدين إبان عشرين سنة من حكم الرئيس الجزائري المنتهية ولايته، والتي أحكم من خلالها السيطرة على نظام مغلق وسري آن له أن ينفجر سنة 2019. معلنا تاريخ 22 فيفري من نفس السنة بداية النهاية لما تبقى من رموز النظام لأعوام ما بعد الإستقلال، على أن تكون حجرة حكم بوتفليقة هي أولى الأحجار التي سيطيح بها الشارع مما تبقى من رقعة النظام. الإطاحة بتلك الحجرة كثير ما راهن الشارع من أجلها قصد زحزحة المجموعة السرية المتخفية من وراء عباءة (الرئيس) من الحكم. والتي حولت الجزائر، مثل بقية الدول النفطية، إلى دولة رعاية بشكل أدى البلاد إلى الركود الإقتصادي المرافق للفساد السياسي.13
في الحقيقة، يعد الإستقرار الذي وفره الرئيس بوتفليقة خلال فترة حكمه لم يكن أي شيء، فهو استقرار هش، لا يخدم الداخل الخارجي ولا الخارج. وهو ما فضحته وكشفت عنه أولى المحكات التي واجهها النظام عقب انخفاض أسعار النفط، بشكل وضع قدرته لشراء السلام والإستقرار من المواطنين أمام معضلة أزموية جديدة14. كانت احتجاجات شهري فيفري ومارس 2019 أحد أهم فصولها، في محاكمة شعبية حضارية ضد النظام، تقرر من خلالها المطالبة بطرد رموز الظل، وبناء جمهورية جزائرية ثانية لا تزال عصية المنال.
2. الحراك الشعبي ودور المؤسسة العسكرية:
في ظل انقسام الداخل الجزائري إلى معسكرين يتصارعان على صفحات الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الإجتماعي: بين معسكر يائس وفاقد الثقة يدعو النظام إلى الرحيل، وآخر متناقض معه تماما يصر بشكل أو بآخر على بقاء النظام وتحسينه، غير متورع عن اتهام دعاة رحيل النظام بالفوضويين والمغامرين. تأتي المؤسسة العسكرية، بين المعسكرَيْن، في شخص قيادتها مضطربة في مواقفها تجاه ما تشهده الساحة السياسية في الجزائر – وهي التي يفترض أن تلتزم الحياد حيال أي صراع سياسي داخلي، وتفادي الإصطفاف مع طرف أو آخر-. فتحت غطاء احترام الدستور والولاء لمؤسسات الدولة، جاء خطاب نائب وزير الدفاع قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق القايد صالح، عبر مجلة “الجيش” لسان حال المؤسسة العسكرية، منحازا للنظام15، وهذا بعد احتجاجات الشارع الجزائري يوم 22 فيفري ضد السلطة. وعلى الرغم من أن لا أحد طلب من المؤسسة التدخل مباشرة لحسم موضوع الرئاسة، إلا أن قائد الأركان حاول إقحام الجيش في اتجاهات المشهد السياسي.
في الحقيقة، مصيبة العمل السياسي في الجزائر تكمن في ذلك التصحر السياسي الذي تعرفه الساحة، والتي غيبت فيها النماذج الوطنية وقدوات سياسية من شأنها أن تنسج خيوط الثقة في البلاد. وهو ما حرص عليه الحرس القديم للنظام، من خلال ممارسات امتدت إلى نصف قرن من تاريخ الجزائر المعاصر: من ردم لكل ما من شأنه أن يزرع في الشعب الجزائري بصيص أمل ومصداقية، سواء عن طريق تزوير التاريخ وتزييف الحقائق، أو التشكيك في الوطنيين واتهام الكفاءات16. ليكتمل مسلسل حملات الغزو الداخلي للنظام مع وصول بوتفليقة إلى الرئاسة وتثبيت المصالح الفرنسية (الإستعمارية) في الجزائرية.17
وسط هذا الفراغ السياسي يبرز الجيش كمؤسسة وحيدة منظمة وقادرة على بسط الإنضباط وفرض الإحترام. مستمدا مكانته المعنوية من كونه جيشا قوامه أبناء كل فئات المجتمع الجزائري، مساهما في ذلك في تحرير البلد، من جهة. وبناء الجزائر المستقلة، من جهة أخرى. لكن من الطابوهات المسكوت عنها لزمن تجاوز النصف قرن من عمر الجزائر (المستقلة) مقابل هذه المكانة شبه المقدسة، هو أن الجيش أصبح اللاعب الوحيد في السياسة: يصنع الرؤساء ويقرر إنهائهم متى شاء، وتمتد عيونه وأذرعه إلى بقية مؤسسات الدولة18. ظل هذا الدور مستمرا منذ استقلال الجزائر سنة 1962. فالكل يعلم ولا أحد يجرؤ على إثارتها. ليعلن بعد توقيف المسار الإنتخابي سنة 1992 مرحلة التقديس المطلق للمؤسسة العسكرية، والتي حصدت رصيدا كبيرا على حساب الساسة والمدنيين في الجزائر، جراء تدخلها في توقيف المسار الإنتخابي سنة 1992 19. فعوض أن يكون هذا التدخل مضر على مستقبل البلاد وسمعة المؤسسة، كبلت هذه الأخيرة من خلال قيادتها الشعب بفكرة أنها “مخلصة البلاد من ظلامية الإسلاميين”. وهو دين بات في ذمة الجزائريين، من الصعب الوفاء به. لينسحب السياسيون من المشهد السياسي، مخلين المكان للجيش الذي منحت قيادته (والأمر يتعلق بجنرالات فرنسا) لنفسها صفة الحَكَم وحق الإرتفاع فوق الجميع. لهذا، وعند كل أزمة سياسية، تتطلع أعناق الجزائريين مثلهم مثل بقية الساسة والإعلاميين من صف المعارضة، نحو مبنى طاقران (مبنى وزارة الدفاع) عساها تأتي بالمخرج.
كان لزاما على الحرس القديم للنظام في الجزائر أن لا يتنكروا لحقيقة أن العالم تغير والجزائر كذلك. فأدوات الأمس أصبحت غير ناجعة اليوم: فطريقة تخليص جزائر 1992 لا يمكنها في أي حال من الأحوال أن تتكرر. ولا يمكن أن تكون المؤسسة العسكرية جزءا مهما من المشكلة السياسية، ولا يجب في نفس الوقت أن تصبح وجها من أوجه الحلول المطروحة. فالسبيل إلى حماية الجيش الجزائري من فلتان المشهد السياسي لن يكون إلا من خلال: تكميم تلك الأفواه المنادية وضرورة تدخله عند أول صيحة تخرج من رحم قصور الساحة السياسية، كأحد مخرجات نظرة قيادة الجيش الإستعلائية إلى المجتمع وكأنه عاجز إلى الأبد.، أو أن تطوره وتحرره رهين إيعاز من المؤسسة. فحماية الحدود والدفاع عن السلامة الترابية وحدها مهام تضطلع من خلالها المؤسسة دستويا نحو الوفاء بالعهد الذي قطعه شهداء ثورة نوفمبر المجيدة. وأي مطلب فوق ذلك، هو تحميل لهذه المؤسسة ما ليس من الواجب تحميلها.. بل هو ميل نحو شرعنة “العسكريتارية” باختصار.
3. حراك شعبي بنكهة ربيع جزائري في عين الإدراك الإستراتيجي الأمريكي:
كثيرا ما أبدت الأوساط الرسمية في الجزائر تخوفها من اتجاه البلاد إلى “ربيع جزائري”، نتيجة الفراغ السياسي الذي أعقب الحالة الصحية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي تغولت من خلاله مؤسسة الرئاسة على كل مرافق وقطاعات الدولة20، فضلا عن صراع الأجنحة داخل نواة الدولة العميقة (جنرالات فرنسا مع رجال المخابرات العسكرية). وهو ما يتزامن مع تلك التقارير الأميركية التي أشارت في وقت سابق إلى ما مفاده أن الجزائر مقبلة عن قريب على “ربيع عربي” سيدخل الجزائر في فوضى تقحمها داخل قوس الإضطراب ومؤشرات الخطر في الشرق الأوسط، وهذا على غرار كل من ليبيا وسوريا واليمن والعراق21. بعد أن راهنت في وقت سابق، أن شرارة الربيع العربي في الجزائر ستنطلق من سلسلة التجاذب والتلاسن بين قطبي السلطة: الرئاسة وجهاز الإستخبارات، لتنتقل إلى الشارع كأحد أدوات هذا الصراع22. وهو الذي لم يحصل، نظرا وقناعة الطرفان أن الإستمرار في الأمر سيعرض مصالح النظام إلى الخطر، لاسيما في ظل المؤشرات غير المطمئنة،حول إدراج الجزائر في أجندة الفصل الثاني من عدوى فوضى ما يسمى بالربيع العربي. وكونها سوف تكون خامس دولة غير مستقرة في القريب العاجل. وهو ما دفعهما إلى نوع من الهدنة وتأجيل خلافتهما السابقة مع مراجعة سياسية بشأن الجبهة الداخلية والتي كانت هشة على العموم.23
ولقد أشرف على مجموعة تلك التقارير الإستراتيجية الأمريكية ميشال ريبان، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية، المكلف بتدريب ضباط الجيش الأمريكي قبل إرسالهم إلى مناطق العمليات بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث حذر من خلالها المؤسسات الإقتصادية من مغبة الإستثمار في عشر دول من بينها الجزائر.23 بالتالي، فسحت عملية تأجيل الخلافات، المجال لعودة الحرس القديم للنظام إلى الساحة السياسية، مع تثبيت لأركان “الدولة العميقة” داخل النظام وبصفة قوية24. وهذا في ظل التحولات الدرامية التي عرفها ويعرفها مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني، وعملية المجازفة بالمزيد من الإحتقان داخل بيته. في ظل استمرارية القحط السياسي على مستوى الفاعلين المدنيين والسياسيين الآخرين.
حالة من الفراغ، حاولت الهبة الشعبية ردمها في إطار ممارسة الشعب لأحد أقدس مهامه، كونه دستوريا هو مصدر السيادة، ليخرج لمدة أربعة أسابيع طالبا استرجاعها، وليحدد مصيره وهذا من خلال لائحة من المطالب الشعبية الموحدة، رسمت لرموز النظام طريقا للرحيل دون رجعة. ويمكن عرض أهم ما جاء فيها، ما يلي:
إستمرار الفعل الشعبي الموحّد حتى تحقيق جميع الأهداف، و تجسيد ذلك من خلال كل المظاهر المتاحة للتعبير و بكل حرية.
الإلتزام الكامل بسلمية الفعل الشعبي في كل مظاهره والتحلي باليقظة ضدّ أي انزلاق قد يؤدي إلى خسارة هذا النصر.
عدم الإلتفات لأي تخويف أو تثبيط أو وعيد بالمآلات المأساوية لتجارب الشعوب الأخرى. على أن يترسّخ في قلوب الجزائريين الإيمان بأن سياق الجزائر وشعبها سياق تجربة الجزائر وشعبه هي تجربة استثنائية فريدة؛ صبر وقاوم الأجداد قرن ونصف ضد همجية الإستعمار، وصبر الجيل الحالي من الجزائريين وآباؤهم على الدولة البوليسية العسكرية لما يزيد عن نصف قرن؛ إنها ساعة الحسم والنصر واستعادة الحرية الكاملة بعد قرنين من الظلمات والخديعة.
كل شعب يسكت عن هضم حقه في الحرية يفقدها.
تأجيل الإنتخابات الرئاسية.
إلغاء ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة.
الإتفاق على عهدتين على الأكثر لأي رئيس في المستقبل.
طي صفحة جميع الوجوه القديمة وممارساتها البالية.
فتح المجال وإطلاق نقاش وطني لتحديد آليات وأدوات المرحلة الإنتقالية، في جو يضمن قيم الحرية و الإحترام.
إلغاء أي وصاية أو رقابة على الشعب من أجهزة الدولة أو البوليس و المخابرات، والعمل على إخضاع أجهزة الأمن والعسكر للرقابة الشعبية.
الإستعداد للتحلي بالتسامح و قبول الآخر وآراؤه ووجهة نظره مهما كانت مادامت بعيدة عن العنف وفي إطار قيم الشعب وثوابته ومكوناته الوطنية الأساسية.
إلغاء جميع المتابعات القضائية ضد المدونين وسجناء الرأي، وفتح المجال وتسهيل عودة أي جزائري من الخارج يريد ذلك ومنع السياق القمعي العام في ظل حكم العصابات.
إحاطة قضية المفقودين بالمزيد من التضامن السياسي.
تفعيل المزيد من التضامن مع فئة ذوي الإحتياجات الخاصة والهدف التكفل الكامل بهم بأعلى معايير التكفل العالمية.
التكفل العاجل بكل جزائري في الخارج يتواجد رهن الحبس أو التوقيف أو أي حالة يضايق فيها أو تهان فيها كرامته.25
هي مجموعة من المطالب على قدر أهميتها بالنسبة إلى الشارع الجزائري، إلا أنها استفزازية بالنسبة إلى السلطة، خاصة وأنها وضعت الأصبع على الكثير من الملفات الساخنة والمغلقة التي عدت بالأمس مفاتيح القبضة النظامية على الشعب. وهو ما يعزز من سيناريوهات تكرارية لما آلت إليه أزمة توقيف المسار الإنتخابي لسنة1992. وهو الأمر الذي بات يدركه الشارع الجزائري ومتفطن له، خاصة وأن عملية الإستمرار في هكذا احتجاجات مليونية صعب التحكم في نسقها السلمي المستدام، على الرغم من الإنضباط وروح المسؤولية التي عرفتها مجريات الشارع لمدة تقارب أربعة جمعات متتالية. إلا أن مناورات تحويل مسار المظاهرات واختراقها قد تكون واردة في أجندات النظام، ولو أن هذا الأخير يدرك تماما أن الأمور هذه المرة لن تكون في صالحه. إلا أنه قد يقبل على هكذا خيار، كون يدرك جيدا أن استمرارية الدعم الخارجي لما تبقى من الحرس القديم للنظام مرهون بقدرة السلطة على احتواء هذا الغليان الشعبي، من جهة. وعلى تجديد نفسه، من جهة أخرى.
4. مخاوف تكرار مخارج سيناريو أزمة 1992 تعود من جديد:
في 5 أكتوبر 1988، وبعد طول معاناة من فساد النظام الحاكم، وتردي الحياة الإقتصادية والإجتماعية، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية وسيطرة العسكر منذ الإستقلال على السلطة، في ذلك اليوم انتفض الشعب الجزائري ضد هذا الظلم، وأجبر النظام الحاكم على التغيير، والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية. نتج عن ذلك ظهور التعددية الحزبية، وانتشار الصحف بمختلف التوجهات26. ظهر في ذلك الوقت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” كحزب سياسي يحمل أفكارًا تعارض الأفكار المعتادة والمعتاد عليها. كان الخطاب الذي صاغه قادة الجبهة الإسلامية خطابًا مغايرًا لما اعتاد المواطن الجزائري على سماعه. وكانت العدالة والمساواة هي اللب، والنهوض بالإنسان هو الهدف، وهذا ما جعلها تكتسب شعبية قهرت خصومها وجعلتهم يعادونها.
كانت الجبهة هي صاحبة الصدارة في الإنتخابات: البلدية، والإنتخابات الولائية، بعد التعددية الحزبية. لتحدث المفاجأة الكبرى: حيث حصلت الحركة على 953 مجلس بلدي من أصل 1939، وعدد32 مجلس ولائي من أصل 48. وكانت هذه النتائج كافية لإعداد الخطط في الخفاء لهذا المنافس الجديد من قبل المتسلطين العسكر. وفي 26 ديسمبر 1991 جرت الإنتخابات التشريعية، وحصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 82% من مقاعد المجلس، أي ما يقارب 188 مقعدًا من أصل 231، وهو ما جعلها اللاعب الأبرز في الساحة.27
في يوم 12 جانفي 1992 قرر المجلس الأعلى للأمن إلغاء نتائج الإنتخابات التشريعية، وهنا بدأت الثورة المضادة حربها على الشعب، وظهر العسكر – كعادتهم السلطوية الإستبدادية – وبدأوا عمليات الإعتقال التي بلغت ما يقارب20 ألف من أعضاء الجبهة الإسلامية، وبدأ التضييق والتصفية الجسدية في الشوارع28. قام العسكر بالإنقلاب على الديمقراطية في الجزائر. فقامت المخابرات بالعملية القذرة، وهي تصفية الوطنيين من المدنيين والضباط المشكوك في ولائهم للمؤسسة العسكرية (لجنرالات فرنسا)، وإلصاق التهم بالجبهة الإسلامية، وهذا بإيعاز من الإيليزيه29. حيث أشار إلى ذلك رئيس الوزراء السابق “عبد الحميد الإبراهيمي” أثناء حوار صحفي أجري معه سنة 1998 بلندن -، ما مفاده: “أن فرنسا أعطت الضوء الأخضر للعسكر للقيام بالمهمة، والإنقلاب، وأن ما حدث هو عملية قذرة ضد الشعب الجزائري”30. وهي نفس التطبيقات المنفذة في كل من سوريا وليبيا والعراق؛ لأنها ـ باختصار ـ أثبتت نجاعتها في المجتمعات الرخوة، حيث تغيب عقول الأغلبية فيها عن الواقع، واستوعاب الأحداث، بفعل أثر الصدمات وتراكم سنوات الظلم. ليطلق على تلك الإستراتيجية الإستبدادية مسميات كلها تدل على أثر الصدمة وأهميتها في حياة الأنظمة المستبدة: سميت “العشرية السوداء” بالجزائر، ونكبة “فبراير” في ليبيا، والمؤامرة العالمية في سوريا. كلها مسميات لاستراتيجية واحدة، حصيلتها واحدة، وهي: إبقاء الوصاية الإستعمارية على الدول والشعوب من خلال استمرار كيانات ضعيفة تقبر فيها كل المبادرات الوطنية النحررية، أين يكون الإنسان فيها هو نواة النهوض، وإسمنت البناء الحضاري.
فتكرار مثل هكذا سيناريو ليس ببعيد، غير أن تطبيقاته ستكون جد صعبة على النظام في بيئة جماهيرية استخلصت دروس الماضي، ولكنها تفتقد إلى أدوات الضبط المستدام لهكذا هبة، في غياب تام لكل ما من شأنه أن يعزز الثقة بين الشارع والمعارضة. وعلى الرغم من سلمية وكثافة الحراك الذي يحاكي تجربة الجماهير إبان هبتهم الأولى يوم 5 أكتوبر 1988، منددين بسنوات الظلم، وهذا بعد طول المعاناة جراء فساد النظام الحاكم، مع تردي الحياة الإقتصادية والإجتماعية، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية، بالإضافة إلى سيطرة العسكر منذ الإستقلال على السلطة. لتجبر تلك الإنتفاضة النظام الحاكم على التغيير، والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية. ما أدى إلى ظهور التعددية الحزبية، وانتشار الصحف بمختلف التوجهات31. لتعتبر حسب دوائر النظام آنذاك عملية الإستجابة لمطالب الشارع هي أكبر مجازفة تقوم بها عصبة النظام، حيث سمحت من خلالها بتأسيس أحزاب إسلامية، على غرار “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” التي قبلت بقواعد اللعبة السياسية المرسومة سلفا من طرف جنرالات فرنسا وأخلطت حسابات الحرس القديم للنظام، محدثة الصدمة وحالة استنفار قصوى على مستوى الإيليزيه.32
سيناريو التسعينيات على الرغم من بعده عن واقع جزائر اليوم، وكذا مدركات الطرفين (الشارع والسلطة) إلا أنه سيكون أحد الخيارات الواردة بقوة أمام فقدان جنرالات فرنسا لذلك التوازن الذي أبقى الحبل مدودا بينهم وبين خلية فرنسا أفريقيا33 (بالإيليزيه). وهي التي لن تقبل أن ترى الجزائر أحد أهم حدائقها الخلفية تفلت من قبضتها.
5. مشروع الجمهورية الثانية: بين مدركات الإرادة الشعبية ومخاوف المصالح الفرنسية:
من الأهمية بمكان التذكير بأن فرنسا بقيت أكثر من 132 سنة في الجزائر، واستفادت من هذا البلد كما لم تستفد من أيَّة مستعمرة أخرى دخلتها. وأكبر دليل على ذلك ربَّما هو برج إيفل العالمي والذي يُعدَّ رمز الحضارة الغربية الأوروبية، والذي صنع كلُّه من حديد الجزائر ومعادنها الطبيعية.34 فبعد الإستقلال وبعد أن دفعت الجزائر ثمناً باهظاً جداً من دمائها وتاريخ أبنائها. ومُنذ ذلك الوقت وفرنسا تحاول بكل السُّبل والوسائل أن تسيطر على الجزائر وأن تعيدها إلى رقبتها، وبالتالي استمرارها في استغلال مواردها الطاقوية والغازية وبسط سيطرتها على الإقتصاد الوطني35. وكانت بالتالي اتفاقيات إيفيان التي عقدت بين الحكومة الجزائرية المؤقتة، وبين حكومة الإحتلال الفرنسية سنة 1960-1962 وكذلك محادثات مولان ولوغران ومحادثات إيفيان الثانية وغيرها، أحد أهم المطالب والشعارات التي رفعها المتظاهرون منذ احتجاجات 22 فيفري 2019، كإعلان طلاق جزائر 2019 من الوصاية والقبضة الإستعمارية الفرنسية. فبالنسبة إليهم تاريخ 5 جويلية 1962 كان تاريخا لتحرير أرض الجزائر، وحان الوقت لتحرير الوطن: شعبا وحكما ومواردا. هذه الأخيرة كم حاولت فرنسا مرارا من أجل الحفاظ عليها سواء عن طريق فرض إجراءات سياسية صارمة على سير مفاوضات إيفيان، وهذا بغية إجبار رفقاء الشَّهيد كريم بلقاسم على القبول بمطلبها الرَّئيسي، والمتمثٍّل في أن تبقى الصَّحراء الجزائرية ونفطها ملكاً لفرنسا دون سواها من الدُّول. غير أن الجناح الوطني آنذاك بدد الأحلام الفرنسية وآمالها المعقودة وخططها الإستراتيجية الإقتصادية التي باءت بالفشل، خاصَّة بعد الإعلان عن تأميم المحروقات الجزائرية من طرف الرئيس الراحل هواري بومدين بتاريخ 24 فيفري 1971. 36 ذلك القرار السِّيادي الإستراتيجي أعطى آنذاك للدَّولة الجزائرية الحقَّ في أن تسيطر على حوالي 51 بالمائة من أرباح الشَّركات الفرنسية العاملة في الجنوب الجزائري. وهو القرار الذي كانت له تداعياته السلبية على السِّياسة الخارجية الجزائرية الدَّولية، وذلك عندما فرضت الدُّول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية حصاراً طاقوياً واقتصادياً على النَّفط الجزائري، وبتحريض وتواطؤ فرنسي.
بالتالي فالحراك الشعبي اليوم، يدرك جيدا أن معركته ليست مع النظام (الدمى) بل مع فرنسا (محرك الدمى): فالسلطات السِّياسية الفرنسية والمراكز الإستراتيجية التي ترسم التَّوجهات الكبرى المصلحية للَّدولة هناك، لا تزال تضع الجزائر ضمن سلِّم أولوياتها القصوى، بحكم أنها أهمُّ دولة في الشَّمال الإفريقي، وأكبر دولة إفريقية، بالتالي لفرنسا مصلحة قومية عليا معها. فبعد أن فقدت فرنسا الكثير من مناطق نفوذها وتوسعها في القارات الخمس، وخاصة في دولٍ مثل كندا وأمريكا ودول الشرق الأوسط ودول أفريقية، كبورندي والكونغو، والسنغال وغيرها. هي تحاول الآن أن تحتفظ بأهمِّ مناطق نفوذها في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، والتي تقع في منطقة جيواستراتيجية مهمة للغاية بالنسبة للملاحة الدَّولية، ويمكن لها من خلالها أن تحكم سيطرتها على العديد من المضايق، والمناطق الجغرافية العالية الحساسيَّة والأهمية وخاصة أوقات الحروب والأزمات.
بالتالي فإنَّ عملية التأثير التاريخي للجزائر في صياغة ماضي فرنسا القريب وحاضرها لا تخفى على كل متابع للإستراتيجية الفرنسية اتجاه الجزائر، والتي كانت ولا تزال في عقول نخبها تعتبرها أرضَ الأحلام الضَائعة. وبدون الغوص في التاريخ القديم أو المعاصر لإزالة قناع الخطط التَّكتيكية لسكَّان قصر الإيليزيه لاستهداف الجزائر بغية إضعافهاَ حتى تصبح لقمة سائغة في فم مصالحها الإستعمارية. وما يؤكد ذلك هو تلك الوثائق المسرَّبة من موقع ويكيليكس العالمي لمؤسِّسه جون أسانج، والذي فضح من خلالها التعاون الأمريكي الفرنسي للتجسُّس على الجزائر، وتركيز حكام قصر الإيليزيه الفرنسي على الأطماع الإقتصادية، ودور العديد من السِّياسيين الجزائريين في التًّعاون معه في هذا المنحى.37
حاليا يعد سفراء كل من فرنسا وأمريكا من أهم السُّفراء الغربيين اهتماماً بالوضع الدَّاخلي الجزائري وتطور الحراك الشعبي اليوم، نظراً لعدَّة اعتبارات أمنية، واستراتيجية اقتصادية بالدَّرجة الأولى، وهذا تحت مبررات متابعة تطور ملف الحريات والحقوق الديمقراطية في الجزائر، وانعكاساته على الأوضاع في البلاد والمنطقة. ولقد كشفت وثائق سرية عديدة عن تلك المحاولات التي كانت تصبوا من خلالها الحكومات الفرنسية المتعاقبة نحو اختراق الجدار السيادي الجزائري والعمل على التدخل في الشؤون الداخلية للوطن، على غرار تلك البرقية المؤرخة بتاريخ 25 جانفي 2008، والتي جاءت فيها تفاصيل المحادثة التي جرت بين السَّفيرين الأمريكي روبرت فورد والفرنسي برنارد باجولي في الجزائر في تلك الفترة الزمنية من تاريخ الجزائر38. حيث صرَّح السفير الفرنسي لنظيره الأمريكي بتاريخ 23 جانفي 2008 بأن الجزائر قد لا تكون بحاجة إلى الرئيس بوتفليقة ولكن عليهم أن يتحركوا. وبأنَّ الحكومة الفرنسية ترى بأن الجزائر تتجه تدريجياً نحو الإستقرار، وذلك لعدم وجود بديل مناسب لبوتفليقة في حال رفضه التّرشح لعهدة ثالثة39. كان ذلك سنة 2008 أي قبل العهدة الرابعة من رئاسة بوتفليقة، فما بلك الآن؟!. بالتالي إنَّ الأطماع الفرنسية في الجزائر تجاوزت مجرد الحفاظ على المكاسب الإقتصادية والأمنية العسكرية، بل وصلت إلى حد محاولة التدخل السافر في الشأن الوطني السِّياسي الداخلي، والذي يعتبر مسألة حيوية وطنية وخط أحمر هو من صميم الأمن القومي الجزائري.
إن محاولة استغلال بعض مكونات الحراك الشعبي والتنقيب عن أطرافه الهشة، مع محاولة إذكاء بعض النعرات الجهوية والتلاعب بها ليس ببعيد عن سيناريوهات التدخل الفرنسي وإجهاض الحراك وهذا بقفازات السلطة حاليا. خاصة وأن بعض نداءات الوحدة الشعبية لا تزال ترفع في مظاهرات غضب الشارع على النظام (ردما لكل هوة من شأنها أن تكون خندقا يشق صف الشارع سواء من خلال التلاعب بعناصر الهوية بين العرب والأمازيغ أو الإستثمار في بعض النعرات والخصومات داخلية المناطقية كالتي تعرفها منطقة غرداية بين الميزابيين وإخوانهم العرب). هذا السيناريو يدخل في صميم سياسات التفكيك الجمهورية الفرنسية الخامسة في كل تجلياتها الإستعمارية الجديدة، كامتداد لروح الإرادة الديغولية في الحفاظ على أهم ما تسميه بأملاكها الإستعمارية وهذا منذ سنة 1958 40. وهو ما أكدته سابقا، تصريحات الرئيس الفرنسي السَّابق نيكولا ساركوزي والتي أشار من خلالها بأن الجزائر أصبحت دولة مهدَّدة بالتقسيم. كما ولقد حرَّض سابقا على قلب نظام الحكم بالقوة، وقبله كان برنارد ليفي الفيلسوف الفرنسي وضابط المُوساد الصُهيوني السَّابق والماسوني المعروف والذي حاول ولا يزال يحاول نقل فوضى ما يسمى بالربيع العربي (العبري) إلى الجزائر. ولا يزال الشعب الجزائري يتذكر أساليب التلاعب الفرنسي بعواطف الشعب وهذا عند زيارة رئيس الوزراء الفرنسي السابق إيمانويل فالس إلى الجزائر، وتسريبه لصورة الرئيس بوتفليقة بصورة متعمدة، وهذا بعد رفض الجزائر منحه ما أراد من عقود وصفقات تجارية، من أجل إنقاذ الإقتصاد الفرنسي الذي كان يعاني آنذاك من أزمة اقتصادية داخلية والتي أخذ الرُّكود والتضخم حظه الأوفر في تراجع هيبة فرنسا الداخلية والإقليمية (على المستوى الأوروبي).
فالأطماع التَّاريخية لفرنسا لا تزال ثابتة ولن تتغيَّر في المُستقبل المنظور. وكل ما تقوم به الدِّبلوماسية الفرنسية من خلال ما تبقى من النظام السياسي الجزائري هو استنساخ لأساليب الجيش الألماني منذ القرن 19 وهي استراتيجية المناورات المباشرة. لكن يظهر شارع جزائر 2019 غير مألوف تماما وعلى غير العادة بالنسبة للإيليزيه: فسقف المطالب الشعبية ارتفع إلى حد المطالبة باستكمال مسيرة الإستقلال الوطني، إسقاطا للسياسة التوسعية المصلحية الفرنسية في محرقة الشعب الجزائري، فاتحا في ذلك الشارع الجزائري الباب لبقية الدول الأفريقية حتى تكسر هي الأخرى قيود الإيليزيه وتحرر ما تبقى من مسيرة بناء أوطانها.
6. معضلة خيارات الحراك الشعبي: الديمقراطية أو التحرر؟!!
بلا يدعو مجالا للشكّ، هنالك حاجةٌ قصوى للإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي، في عموم الحراك الشعبي الجزائري، غير أنه أجدى بالمعارضة الحقيقية أو حتى صنيعة النظام والتي تتحدّث عن الحاجة إلى تغيير سلمي من أجل الإنتقال من ديمقراطية القبضة النظامية إلى الديمقراطية الشعبية في البلاد أن تبحث أيضاً عن مقدار مسؤولياتها عن أسباب التخلّف السياسي والإجتماعي في مشهد كانت هي أحد أبرز مكونات تصحره وجفائه السياسي. وهذا من خلال دعمٍ مطلق ومفتوح للرئيس لأكثر من ثلاث عهدات، يؤمن لهم من خلالها بطارية البقاء في الواجهة، مستفيدين في إطار ذلك من مزايا التمسح بمقر المرادية.
فعند الحديث عن الديمقراطية والإصلاح السياسي المطالب به جماهيريا لابد من أن تستثنى هذه المرة الجزائر. وعند الحديث عن مستقبل البلاد الإقتصادي منه والتجاري والأمني تصبح قضية قطع الحبل الممدود بين فرنسا والجزائر مطلبا شعبيا وأمراً ضرورياً وحتمياً لا يمكن تجاوزه. وفي كلا “الحديثين” لن تستثنى مسؤولية الحرس القديم للنظام من المحاسبة والمساءلة، والذي كان السبب أصلاً في الكثير من السلبيات الراهنة في حاضر وتاريخ جزائر ما بعد الإستقلال. فإذا كانت الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في الشارع الجزائري اليوم، بل وحتى في بعض النقاط البعيدة من التراب الوطني والتي لم تصلها أيادي النظام. إلا أن الديمقراطية في عمق الآلام الشعبية هي وجه من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه. ولذلك فإنّ إنهاء الأزمات السياسية في الجزائر يكون بدايةً في قطع الحبل السري الذي يربط الإيليزيه بالجزائر وكافّة العلاقات التي أخذت صيغ الإختراق الناعم للمناعة القومية الجزائرية. ثم إزالة كل أشكال الإفراط في استعمال السيادة كأسلوب من أساليب الغزو الداخلي أي احتلال النظام لشعبه على حساب كرامته وشرفه وتضحياته الجسام. ثم إعادة الحقوق وبناء دولة لن تنكسر ما دام سلطان العدالة قائم فيها. يكفله في ذلك بناء وضع دستوري سليم يناسب ظروف الجزائر وجغرافيتها والأصول الثقافية لشعبها.
فما تحتاجه الجزائر الآن، ليس فقط الإصلاح السياسي الداخلي، بل هناك حاجةٌ ماسّة إلى صيغة توافقية يتكامل من خلالها العدل السياسي مع العدل الإجتماعي، ليرتقي من خلالها التحرّر الوطني مع الحرّيات السياسية والبناء الدستوري السليم.

خاتمة:
بناء على ما سبق، تظهر متلازمة الإصلاح السياسي الداخلي والتحرر من الوصاية والقيود الفرنسية التي كبلت تاريخ وجغرافيا الجزائر، منصة مهمة يتحرك من خلالها الشارع الجزائري محاولة منه لتصحيح صفحات التاريخ الجزائري وحقيقة الإنسان الجزائري. ومراجعة بسيطة لما حدث في دول عربية سبق الحراك الشعبي فيها الشارع الجزائري، على غرار كل من مصر وتونس وليبيا من أجل التغيير والإصلاح السياسي- وعلى الرغم من تفاوت حدتها في كل دولة- وبالرغم من تغير أنظمة الحكم فيها، إلا أنها لم ترتق إلى طموحات شعوبها. نظرا وكون معظم الطروحات الفكرية في شوارع تلك الدول، لم تقم التوازن السليم المطلوب بين ثلاثية الأهداف المرجوّة لمستقبل الدولة: الديمقراطية والتحرّر وتعزيز الوحدة الوطنية.
صحيحٌ أنّ المسألة الديمقراطية هي أساسٌ مهمّ للتعامل مع كلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، لكن العملية الديمقراطية هي أشبه بعربة تستوجب وجود من يقودها بشكل جيّد، وتفترض حمولةً عليها، وهدفاً تصل إليه. وهذه الأمور ما زالت غائبة عن الدعوات للديمقراطية في البلاد العربية. فتوفُّر آليّات الحياة السياسية الديمقراطية وحدها لن يحلّ مشاكل الأوطان، بل العكس حصل في عدّة بلدانٍ عربية اكتفت بالآليات الإنتخابية فقط كصورة شكلية من الديمقراطية. ففي الفضاء العربي المحيط بالجزائر مزيجٌ مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيجٍ أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والإجتماعي بين أفراد الشعب الواحد، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة.
وإذا كان من الطبيعي أن تنتفض بعض شعوب دول المنطقة وأن تُطالب بأوضاع أفضل وأن تسعى من أجل حقّ المشاركة الفعّالة في الحياة العامّة، فإنّ الحراك الجماهيري السليم يحتاج إلى آفاق فكرية واضحة المعالم وإلى أسلوبٍ سلمي في العمل، وإلى أطر تنظيمية سليمة البناء، وإلى قيادات مخلصة للأهداف الوطنية العامّة، وليس لمصالحها الفئوية الخاصّة.. هذا ما يحدث حاليا في الجزائر.. فهل ستكون مرة أخرى هي الإستثناء في المنطقة؟!!. على كل الطريق نحو الجمهورية الثانية يظهر أنه صعب، ولكن ليس بالأمر المستحيل. لكن تذكروا أن الراحل محمد بوضياف اغتيل لسبب واحد كونه أراد أن يكون رئيسا للجمهورية لا واجهة مدنية للدبابة… فمن يقرر الحكم في الجزائر؟!.
الهوامش:
(1) مولود قاسم نايت بلقاسم، شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية، الجزء الأول، الطبعة الثانية، الجزائر: شركة دار الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، 2007، ص.، 19
(2) نفس المرجع، ص.، 19
(3) نفس المرجع، ص.، 21
(4) Jessica Northey, Civil Society in Algeria : Activism, Identity and the Democratic Process, in :http://www.lse.ac.uk/middle-east-centre/events/2019/civil-society-in-algeria-activism identity-and-the-democratic process?
(5) Ibid
(6) Meziane Abane, Presidentielle 2019: La Contestation populaire, voir:

Présidentielle 2019 : La contestation populaire


(7) Ibid
(8) Ibibid
(9) Alexis Boisselier, Protestations contre Abdelaziz Bouteflika: les 4 scénarios possibles en Algérie, https://www.lejdd.fr/International/Afrique/protestations-contre-abdelaziz-bouteflika-les-4-scenarios-possibles-en-algerie-3866312
(10) Ibid
(11) Ibibid
(12) Hamid Ould Ahmed, Lamine Chikhi, Big anti-Bouteflika protest fills Algerian capital, https://www.reuters.com/article/us-algeria-protests/big-anti-bouteflika-protest-fills-algerian-capital-idUSKCN1QP12X
(13) Ibid
(14) La redaction de Mondafrique, Algérie, une mobilisation inédite,

Algérie, une mobilisation inédite


(15) مجلة الجيش، مجلة شهرية للجيش الوطني الشعبي، العدد 667، تصدر عن وزراة الدفاع الوطني: المركز الوطني للمنشورات العسكرية، الجزائر، فيفري 2019، الإفتتاحية.
(16) Moussa Ait – Embarek, L Algerie en murmure, Un cahier sur la torture, Alger: Edition Hoggar, 2009, p. 53.
(17) Ibid, p. 56
(18) Christophe Dubois et Marine – Christine Tabet, Paris – Alger : Une histoire passionelle, Edition Stock, France, 2015, p. 26.
(19) Ibid, p. 28
(20) Ahmed Bensaada, Arabesque américaine – Le rôle des États-Unis dans les révoltes de la rue arabe, éditions Michel Brûlé, Montréal, Canada, 2014, p. 79.
(21) Ibid, p. 79.
(22) «Printemps arabes: le souffle et les mots», Riveneuve Continents, numéro 14, 2012., p. 147.
(23) Ibid, p. 151.
(24) Ibibid, p. 162.
(25) موقع قناة الجزائر، لائحة المطالب الشعبية الموحدة، أنظر في موقع:
http://www.algeriachannel.net/2019/02/%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B9%D9%87%D8%AF%D8%A9%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D9%84%D8%A7-%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1/
(26) Lounis Aggoun, Jean Baptiste Rivoire, Françalgérie crimes et mensonges d’États, Histoire secrète de la guerre d’indépendance à la « troisième guerre », Paris, La Découverte, 2004. P. 33.
(27) Mohamed Samraoui, Chronique des années de sang, Paris, Denoël, 2003, p. 47.
(28) Ibid, p. 48.
(29) Ibibid, p. 48
(30) Habib Souaïdia, La sale guerre, Le témoignage d’un ancien officier des forces spéciales de l’armée algérienne, 1992-2000, Paris, La Découverte, 2001, p. 21.
(31) Ibid, p. 22.
(32) Benjamin Stora, La guerre invisible – Algérie années 90, Presses de Sciences Po., 2000, p. 252.
(33) Baadikko Mammadu, Françafrique: l’échec. L’Afrique postcoloniale en question, Paris, L’Harmattan, 2001, p. 365.
(34) Patrick Pesnot, Les dessous de la Françafrique: les dossiers secrets de monsieur X, Paris, Nouveau monde, 2008, p.395.
(35) Ibid, p. 398.
(36) Ibibid, p. 411.
(37) R. Mahmoudi, Un institut américain prédit des troubles sociaux en Algérie en 2019, Voir: https://www.algeriepatriotique.com/2019/01/13/un-institut-americain-predit-des-troubles-sociaux-en-algerie-en-2019/
(38) Ibid
(39) Wikileaks, Conséquence de la guerre des clans : Bouteflika aurait fragilisé l’armée, Voir: https://algeria-watch.org/?p=44925
(40) François-Xavier Verschave, La Françafrique : le plus long scandale de la République, Paris, Stock, 1998, p. 379.