جين شارب ومخاطر في عمق الحراك على الأمن القومي الجزائري

أضيف بتاريخ: 08 - 08 - 2019

د. بلهول نسيم
(خبير في الشؤون الأمنية والإستراتيجية)

منذ تاريخ 22 فيفري 2019، عرفت الجمعات الجزائرية حشودا كبيرة لشباب المسيرات في يقظة شعبية مثالية، يقال أنها عفوية وفريدة من نوعها، سلمية.. لا عنفية، عكست نضجا سياسيا ووعيا وطنيا وتنظيما منضبطا.. غير أن الأمور ليست في جانبها المظلم كذلك.. مؤشرات عديدة توحي أن الهبة الشعبية في أحد أوجهها الخفية ما هي إلا “ثورة ملونة” كبقية الإحتجاجات التي هزت المشهد السياسي في كل من صربيا وجورجيا وأوكرانيا. في استثمار إستراتيجي إستخباراتي لموجة الغضب وحماسية التغيير لشباب الإنتفاضات في ورشات الثورة اللاعنفية وبتوجيه من دستور التغيير السلمي “لجين شارب”.
لقد أشاد الإعلام الغربي بالحراك الشعبي في الجزائر وبعفويته وشعبيته مثلما أشاد سابقا بتلك الثورات التي هزت المشهد السياسي في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وذلك منذ سنة 2000م. عفوية الهبة لا تلغي إستراتيجية الإختراق والتحكم المرحلي الناتجة عن تخطيط قبلي واسع من قبل ورشات استخباراتية أمريكية بالأساس وبدعم من جمعيات ومنظمات غير حكومية على غرار كل من المنظمة الأمريكية للتنمية (USAID)، الوقف القومي من أجل الديمقراطية (NED)، مؤسسة أبرت أينشتاين (AEI)، وغير ها كثير. فجميعها يتلقى دعمه المالي من الميزانية الأمريكية والرساميل الخاصة الأمريكية. والجميع يتذكر ما قامت به حركة (المقاومة، Otpor) والتي كانت وراء الإطاحة بسلوبودان ميلوزوفيتش بصربيا.
والذي يعود إلى كتاب مهندس الثورات الملونة في الإستخبارات المركزية الأمريكية ومؤسس مؤسسة ألبرت أينشتاين “جين شارب” والموسوم ب: “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية” سيفهم ما يحصل الآن في الجزائر وفي قلب عفوية وبراءة الحراك، وأساليب “الصراع اللاعنفي التي نفذت من داخل أجنحة الحراك”: من رفع شعارات الغضب المهنية أو الشعبية، مرورا بنشر رسائل إلكترونية للحشود، فالسخرية من المسؤولين الرسميين، وكذا تنظيم مسيرات طلابية، وصولا إلى العصيان المدني – وهي المرحلة التي تلوح بها التشكيلات المندسة داخل الحراك هذه الأيام -، لتنتهي بمرحلتين خطيرتين، ألا وهما: تعطيل الفضاء و تشكيل حكومة موازية.
مشهد الثورة في الجزائر انتقل من التظاهر في الفضاء الشعبي إلى الإحتجاج على مستوى الفضاء الأزرق تلك الساحة العامة للقرن 21. مستفيدة من فاعلية التكنولوجيا وشبكات التواصل الإجتماعي.. ولحد الآن لم تتم الإجابة عن هذا السيل الرهيب من المدونين الجزائريين الذين أضحوا يتحكمون في تفاصيل شبكة الأنترنت ويمكن إيجاد الإجابة من خلال تصفح مواقع “هيئات تصدير الديمقراطية”.. وتحالف الحركات الشبابية (AYM- Alliance of Youth Movements). فالكثير ممن نشطوا ما يسمى بالثورات العربية تدربوا على تنظيم المظاهرات السلمية وعلى أفضل السبل في مواجهة القوى الأمنية بصربيا من طرف مجموعة كانفاس وعميل الإستخبارات الأمريكية الصربي بوبوفيتش. ف”الطرق اللاعنفية” هي المشاهد التي أطرت وتصدرت الحراك في الجزائر.. فهل حدث هذا على وجه الصدفة؟!..
إن تجربة العشرية السوداء في الجزائر حصنتها من إستراتيجية “التربيع”، أي إسقاط الجزائر في مصيدة “تصدير الديمقراطية”. على الرغم من ذلك أقبلت ما يعرف ب: “التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية (CNCD)، ضمت العديد من الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات غير الحكومية وشخصيات (وطنية): فالكثير من تلك الهيئات تربطها بطريقة أو بأخرى علاقات مع الوقف القومي للديمقراطية، وهذا على غرار كل من اللجنة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، ويكفي العودة إلى موقع الوقف ومراجعة تقاريره السنوية وهذا منذ سنة 2004 للوقوف على التمويلات المهمة التي استفادت منها تلك الهيئات. ولقد لعب مركز التضامن التابع للوقف القومي الأمريكي للديمقراطية دورا في نسج خيوط الإختراق والتغلغل في أعماق الحراك الشعبي. وتعتبر مديرة القسم الدولي في المركز “كاتي فينغولد” أكثر الأمريكيين طلاعا على مجريات المشهد السياسي في الجزائر، وهي التي راسلت في الكثير من المرات الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة فيما يخص قلق الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص اعتقالات طالت المحتجين النقابيين (والذين يعدون أعضاء في تنسيقية التغيير السالفة الذكر). هذا ناهيك عن استقبال الإدارة الأمريكية بواشنطن وبسفارتها في الجزائر الكثير من أعضاء التنسيقية ورؤساء الأحزاب وفاعلين في المجتمع المدني. إضافة إلى العلاقات التي تربط بين جمعية “المفقودين في الجزائر” ومع المنظمة الأم المتواجدة بباريس، والتي تعتبر أحد فروعها في الجزائر والتي استفادت هي الأخرى من دعم الوقف القومي الأمريكي للديمقراطية. المهم أن من يطلع على تقارير هذا الوقف سيتفاجأ من وطنية الكثير من تلك الجمعيات والهيئات التي تنخر الأمن القومي الجزائري في عمقه الشعبي كمنصة أساس تنطلق منها أية معادلة قومية للإستقرار والتغيير الحقيقي والذاتي (المستقل).
يظهر أن ذاكرة الجزائريين أضحت ضعيفة بسبب تسارع وتراكم الأحداث، مشيدين بحراك قيل عنه أنه فريد من نوعه، وليست الثورات العربية ببعيدة ويكفي الرجوع إلى الثورات الملونة في أوروبا الشرقية ليعتبر من أراد أن يعتبر. وفي ذلك يقول “إيفان ماروفيتش” وهو ناشط صربي في أوتبور ومكون في كانفاس: “غالبا ما يتم اعتبار الثورات عفوية، بحيث يبدو الناس نزلوا إلى الشارع ببساطة، مع أن ذلك هو نتيجة لأشهر عدة أو حتى سنوات من التحضير. إنه عمل ممل جدا حتى تبلغ النقطة التي يمكنك فيها تنظيم مظاهرات وإضرابات حاشدة، إذا كان التخطيط محكما لحظة البدء، ينتهي كل شيء خلال بضعة أسابيع”.
يقول سريدا بوبوفيتش: “.. حين تشاهدون شابا في الشارع يتعامل مع الشرطة أو الجيش بشكل أخوي، اعلموا أن احدا قد خطط لذلك من قبل”.
فبعيدا عن الرومانسية الثورية المرافقة للحراك في الجزائر، إلا أن هذا لن ينسينا ما قاله الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت: “في السياسة، لا شيء يحدث بالصدفة، وإذا حصل شيء ما، يمكنكم المراهنة أنه قد تم التخطيط له”.
والجزائر ليست استثناء من كل هذا.. فالتمعن في مختلف الأعمال التي تم تنفيذها خلال مسيراك الحراك الشعبي في الجزائر تبين أن نقاط عديدة من 199 نقطة التي تضمنتها قائمة أساليب العمل اللاعنفي المنشورة من طرف مجموعة كانفاس تم تنفيذها على أرض الواقع.
لقد استوقفنا أثناء تفحصنا للتقرير السنوي لسنة 2018 الصادر عن الوقف القومي من أجل الديمقراطية (وهي من المؤسسات الحكومية الأمريكية الموكلة لها مهمة “تصدير الديمقراطية”)، تلقي هيئات جزائرية لدعم مالي من طرف هذه المؤسسة، فمثلا جمعية جزائرنا تلقت ما يقارب 26000دولار.
على كل، بقدر ما عصفت مسيرات الحراك وكسرت عظام أجنحة النظام الفاسد.. وعكست حالة حضارية للوعي الجماعي الشعبي، إلا أن تطابق اتجاهات وأدوات الحراك مع أساليب كانفاس ما يتعلق منه ومراحل المقاومة اللاعنفية، تؤكد مرة أخرى أن هنالك مندسين وناشطين داخل الحراك تم تعبئتهم من طرف ورشات “تصدير الديمقراطية”، أفواههم وطنية وقلوبهم أجندات خارجية، وداخلية في خليط هجين بقوض اتجاهات الإصلاح ورياح التغيير الإيجابي.
إن أصعب مرحلة في الثورات السلمية هي سقوط السلطة (وليس النظام). ولا يمكن التفكير في مخارج مهمة نحو جزائر واعدة لشعب يستحق ثمارا حقيقية لتضحيات طوال، إلا من خلال نبذ العناد والتصلب في المواقف.. دون ذلك فكل البدائل والخيارات التي ستطرح ستكون دون فائدة.. بل ستتحول إلى أدوات في أيدي نفس الورشات التي ذكرت سابقا.. وهو ما لا نتمناه.