“المنهجية الخلدونية” في خطاب الرئيس بشار الأسد

أضيف بتاريخ: 23 - 02 - 2019

ما يميِّز المفكِّر العربي “ابن خلدون” عن غيره من الذين انشغلوا بكتابة التاريخ أمثال (الطبري، ابن أثير، المسعودي،.. وغيرهم) هي القدرة المعرفية الفذة في النفاذ إلى ما وراء الأحداث التاريخية، والوقوف على الدرس الحضاري لها، بتحليلها والبرهنة عليها، استخلاصاً للقوانين الكامنة وراءها، عن طريق إعمال الأسباب والمسببات والعلل، للكشف عن العوامل التي تؤدي إلى حدوث الظاهرة بمجمل تعقيداتها وتركيباتها المكونة لها، مستخلصاً منها نظريته الشهيرة عن صعود وسقوط الدول والمجتمعات، وهو ذات المنهج النقدي العقلاني الذي سار على هديه بعده بقرون، العديد من الفلاسفة الألمان أمثال (فيخته، وشلنغ، والذي بلغ ذروته مع “هيجل” في كتابه “فلسفة التاريخ”)..

بتلك “المنهجية الخلدونية” الدقيقة، النافذة إلى ما وراء المستجد من الظواهر التي تبرز بعامل “التآثر الخلدوني”، دون أن تفصل الحدث التاريخي عن إطاره العقلاني الموضوعي، وتتعامل معه من خلال “المبدأ الخلدوني” الأهم، وهو مبدأ تحديد “منطلق الحدث” القادر على فرز وتصنيف الحدث من حيث (الزمان والقوة والمصدر)، فهل نحن إزاء حدث أوَّل؟! أو أنها _أحداث_ جزء من حدث لا يزال يقع ويستمر بتداعياته؟! أم أن الحدث مجرد ردة فعل ونحن نتعامل مع ردة الفعل ولم نتعرف بعد إلى الحدث ذاته أو نتجاهله؟! ، واهتداءً بجدنا “ابن خلدون” يطلُّ السيد الرئيس بشار الأسد بخطابه الأخير أمام رؤساء المجالس المحلية لأكثر من ساعة ونصف، طلة الرئيس الأكاديمي الشارح المٌشرِّح لمشهد الصراع والمواجهة، فاتحاً خارطةً مفاهيمية استدلالية، للعديد من الظواهر المستجدة الناتئة على مشهد التصدي والمواجهة، دون عزلها عن سياقها العقلاني والموضوعي لسيرورة الاستهداف الممنهج الذي تتعرض له سورية منذ ما يقارب التسع سنوات..

ثوابت (الأرض والإنسان والتاريخ) الصانعة للأحداث، الحاملة للمبادئ والقيم الحضارية التي تمثل هوية المجتمعات وتصون وحدتها وتحمي وجودها واستقلالها وسيادتها، ثوابتٌ لم تغب عن أي من إطلالات السيد الرئيس بشار الأسد، وهو يركز عليها مروراً في جدليات عدة في العديد من إطلالاته، (التاريخ_الهوية) و(الشعب_الجيش) و(المجتمع_والأرض)، وهي الثوابت الموضوعة على رأس قائمة الاستهداف الممنهج من قبل أطراف العدوان وأدواته بتعدد أشكاله وميادين عمله ونشاطه، والتي عبر عنها السيد الرئيس بقوله: (المخطط لم ينته بعد، وكل مرحلة لها سمومها وأساليبها) مؤكداً أننا ما زلنا نخوض أربعة أشكال من الحروب الحقيقية وهي: (الحرب العسكرية، وحرب الحصار، وحرب وحرب الإنترنت والمواقع الاجتماعية، وحرب الفاسدين)..

أن يخوض الرئيس الأسد في البديهيات المتفق عليها، يعني إعادة ربط الإطار المعرفي وضبط الخارطة المفاهيمية في التعاطي مع الظواهر المستجدة، حيث يقول: (إن عناصر المشكلة لا نميز بينها أحيانا، ونضعها كلها في سلة واحدة، ونتعامل معها كمشكلة واحدة، ونتعامل معها كحل واحد، وبالتالي لا يمكن أن نصل لحل، هذه العناصر لها أسباب مختلفة ولها مشاكل مختلفة والتعامل معها يجب أن يكون بحلول متوازية، فكل عنصر من هذه العناصر له حل بطريقة مختلفة) مضيفاً بأن أخطر شيء يحدث عندما تدخل الأطراف الخارجية على المشكلات الواقعية، فتغدو المشكلات مشكلاتنا والحوار ليس حوارنا قائلاً: (فالمشكلة المرتبطة بالفساد يقال بأنها إهمال، ومشكلة الإهمال يقال سببها الحصار، ومشكلة الحصار تعود لشيء آخر، ويصوَّر الفاسد على أنه مظلوم، فالذي يحصل أننا نفقد الرؤية بالنسبة لتفاصيل هذه المواضيع وأسبابها، ونبدأ بالصراع مع هذه المشاكل، فالمشكلة موجودة في اتجاه، ونبدأ نحاربها في الاتجاه الآخر، وهذا ما يسمى المعارك “الدونكيشوتية” فتنشأ بيئة يمكن من خلالها تسويق أية أفكار) في ظل ما بات يسمى (حروب الجيل الرابع)..

سياسياً حمَّل الرئيس الأسد خطابه رسائل سياسية هامة وحاسمة على المستوى الإقليمي والدولي، خصوما وحلفاءً، جاءت دولياً على صعيد الإملاءات التي تحاول أطراف العدوان فرضها على الدستور عبر منصة “اللجنة الدستورية” حاسماً في هذا الملف قائلاً: (الدستور هو مصير البلد، وهو غير خاضع لمساومات ومجاملات، وأي تهاون قد يكون ثمنه أكبر من ثمن الحرب)، وإقليمياً كان للعدو التركي “أردوغان” الحصة الأكبر من هذه الرسائل الذي كما قال الرئيس الأسد (ثماني سنوات وهو يستجدي الأمريكي ليسمح له بالدخول في المنطقة الشمالية والشرقية، بعد أن جن جنونهم حينما خسروا جميع أدواتهم في المنطقة) واصفاً إياه بـ (الإخونجي، وأجير رخيص عند الأمريكي)، وهذه المفردة “إخونجي” تعيدنا إلى المربع الأول في مشهد العدوان على سورية، حيث كان على رأس الطلبات التي قدمت عن طريق “قطر” للسيد الرئيس بشار الأسد لتجنبه الخوض فيما سمي “الربيع المسموم” هو إشراك “الإخوان المسلمين” في السلطة الأمر الذي رفضته دمشق بشكل قاطع، وهو موثق بإحدى محاضر الجلسات في كتاب (الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج لسامي كليب).. وفي النهاية نقول لهم ما قاله أسد بلاد الشام، سيبقى (الأفق أمام ما اختاروه مسدود)، والسلام على سورية أرضاً ودولةً وشعباً ورئيساً..

مهند ديب