تجربة السنوات الست: تقييما لتجربة الجبهة الشعبية في تونس

أضيف بتاريخ: 07 - 10 - 2018

في مثل هذا اليوم منذ ست سنوات قررت القوى الوطنية في تونس بشقيها القومي والماركسي التوحد وتأسيس الجبهة الشعبية والقطع مع حالة التشظي والتشرذم التي كانت عليها هذه القوى الوطنية المناضلة منذ انتفاضة 17 ديسمبر.
قبل تأسيس الجبهة الشعبية كان اليسار التونسي المشتت أنذاك لا يمثل أي وزن سياسي في تونس وكان يوصف بأسلوب استهجاني استنقاصي ” بالصفر فاصل ” وكان عدد نواب القوى اليسارية لا يتجاوز الست نواب (ثلاث نواب عن حزب العمال وناءبين عن التيار الشعبي ونائب عن حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد) ولا يكاد اسم هذه القوى يسارية يذكر أو لا تكاد تحركاتها وأنشطتها يسمع عنها أحد .
لكن مع تأسيس هذه الجبهة تشكل قطب سياسي يساري وطني قوي تحول بسرعة إلى أكبر قوة في المعارضة والقوة السياسية الثالثة في البلد وأحد التجارب السياسية الرائدة في الوطن العربي بشهادة الملاحظين السياسين وكل المحللين من تونس ومن خارجها وأصبحت الجبهة الشعبية قوة مؤثرة في المشهد السياسي التونسي حيث احرجت مواقفها كل الحكومات فهاجمها كل الذين حكموا البلاد وحاولوا تشويهها من علي العريض إلى المهدي جمعة وصولا للشاهد اضافة الى المرزوقي والغنوشي والسبسي وغيرهم وهذا اعتراف ضمني بأن الجبهة الشعبية كيان مقلق للنظام الرسمي للاوطني في تونس والحكام على حد سواء …
من الدلائل الأخرى التي تؤكد أن الجبهة الشعبية مثلت بسرعة قوية سياسية مقلقة للنظام اغتيال اثنين من رموزها في ظرف ستة أشهر ونصف تقريبا وهوما الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في محاولة لارباكها لكن ضريبة الدم هذه دفعت الجبهاويين إلى مزيد رص الصفوف والذهاب إلى الإمام في سبيل مزيد الهيكلة والتواصل مع المواطنين .
هذا إضافة إلى محاولة استهداف رموز الجبهة وتهديدهم بواسطة الاغتيالات السياسية في محاولة لارباكهم فكان رموز الجبهة ونوابها على قاءمات المهددين بالاغتيال على غرار حمة الهمامي ومنجي الرحوي وأحمد الصديق وعثمان بالحاج عمر والجيلاني الهمامي وغيرهم …

ثم جاءت تجربة جبهة الإنقاذ التي قد نختلف في تقييمها لكن من الضروري التأكيد على أنها قد جاءت بعد اغتيالين سياسيين لرموز الجبهة وتهديد بقية رموزها وأن هذه الجبهة اي جبهة الانقاذ كانت تحالف تكتيكي وليس استراتيجي ، تحالف محدد سلفا وبالتقاء قاءم على أربع نقاط معينة وفي ظرف زمني محدد انهته الجبهة الشعبية ببيان سياسي يفصلها عن نداء تونس بمجرد تحقق النقاط الأربعة وهي إخراج النهضة من الحكم وتحديد موعد للانتخابات وتحييد دور العباد وحل ما كان يعرف آنذاك بلجان حماية الثورة ، مع ضرورة التأكيد على انه تحالف معارضة وليس تحالف حكم بما معنى أنه لا مناصب ولا مغانم ولا حقائب من ورائه.
حتى جاءت انتخابات أكتوبر 2014 والتي رغم الاختلافات في مستوى القوائم وإنزال قوائم موازية لأشخاص محسوبين على الجبهة في بعض الولايات فإنها أفرزت صعود خمسة عشرة نائبا عن الجبهة الشعبية إلى البرلمان وتضاعف العدد مرتين ونصف مقارنة بانتخابات 2011 حينما كان العدد ب 06 نواب فقط ، فكان نواب الجبهة من أفضل النواب أداء تحت قبة البرلمان وخارجه من خلال التواصل المباشر مع جهاتهم أو من خلال تواجدهم في الشارع بخصوص القضايا الوطنية والقومية المهمة على غرار التطبيع وقانون المصالحة.
ثم جاء الاستحقاق الإنتخابي البلدي الأخير بنسب لم ترض حتى الجبهاويين أنفسهم رغم تراجع النهضة والنداء والمناخ السياسي التونسي العام الذي افرز تقدم المستقلين في عدة بلديات فقد حافظت الجبهة على مستواها كقوة سياسية ثالثة من ناحية عدد النواب البلديين على المستوى الوطني.
من بين النقاط الأخرى التي تحسب للجبهة الشعبية هي محافظتها على لحمتها ووحدة مكوناتها في حين شهدت القوى الأخرى التشتت والتشقق على غرار نداء تونس وقبله المؤتمر من أجل الجمهورية والحزب الديمقراطي التقدمي وأيضا من خلال تطور انتشارها وشعبيتها ولو بنسق حثيث في مقابل تراجع خصومها حيث فقد النهضة مثلا قرابة 800 ألف من جسمها الانتخابي فيما بين 2011 و 2014 … كما نجحت الجبهة في الانفتاح على القوى اليسارية والوطنية في العالم على غرار علاقتها مع اليسار اللاتيني وحتى الأوروبي مثل قوى السيار الفرنسي وحزب بوديموس في إسبانيا وسيريزا في اليونان وحزب فرنسا الأبية france insoumise والجبهة الشعبية لتحرير ليبيا والقوى اليسارية الناشئة في المغرب الأقصى وتنسيق بعض أحزابها مع الجبهة العريية التقدمية ، كل هذا ساهم في فك عزلة الجبهة الشعبية ولو نسبيا في مستوى محيطها الإقليمي والدولي.
من النقاط الأخرى الإيجابية هي وضوح مواقف الجبهة الشعبية وصحة قرائتها للمشهد السياسي في تونس واستشرافه جيدا فالجبهة الشعبية هي من أكدت منذ 2012 أن النهضة والنداء سيذهبان في تحالف حكم وهو ما تأكد بعد انتخابات أكتوبر 2014 … والجبهة هي التي أكدت أن الحوار الوطني لا وطنية فيه وأن وثيقة قرطاج لن تكون سوى فرصة لنداء تونس لترميم بيته الداخلي فرفضت الجبهة الشعبية الهرولة لهذه المحطات السياسية التي تكررت دون إخراج البلاد من عنق الزجاجة بل على العكس من ذلك أبدت الأزمة وأعطت فرصة للاءتلاف الحاكم لمواصلة الحكم بنفس المنهج .
من النقاط الأخرى التي تحسب للجبهة الشعبية هي محافظتها على مصداقية مناضليها الذين لم تحم حولهم اي شكوك أو تهم الفساد أو العمالة والتخابر والاجهزة الموازية( حركة النهضة مؤخرا ) والسياحة الحزبية على خلاف اغلب الأحزاب الأخرى تقريبا.
هذا وقد نجحت الجبهة الشعبية منذ أيام بالاشتراك مع هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في كشف جهاز الأمن الموازي لحركة النهضة ودوره في نشر الارهاب في تونس والخارج وهو الأمر الذي أربك الحركة وكشف حقيقتها وحقيقة التوافق المغشوش مع النداء أمام الرأي العام الوطني والدولي.

هذه الايجابيات بطبيعة الحال لا يجب أن تحجب عنا بعض النقائص التي تعاني منها الجبهة الشعبية وخاصة غياب التقييم والنقد والانتقاد والممارسة الديمقراطية وغياب الهيكلة في بعض الجهات والانضباط والانفتاح على المستقلين وعلى غياب رؤية ثقافية واضحة للجبهة الشعبية وضعفها في مستوى الإعلام والاتصال والتواصل وتطوير طرق الخطاب والاستقطاب والتجذر والانغراس وخاصة التمويل الذاتي وعدم التنسيق في مستوى النقابات والمنظمات الوطنية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام لطلبة تونس والرابطة الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والمحامين وهو ما كلف الجبهة الشعبية عديد المناصب في مواقع حساسة وتوحيد الأرضية السياسية والمواقف من القضايا الخارجية خاصة وطرح مواضيع مهمة خاصة موضوع الثروات الوطنية واتفاقات تونس الاقتصادية مع الخارج بأكثر جرأة وفاعلية.
خمس سنوات مضت قدمت فيها الجبهة الشعبية الكثير وصارت رقما صعبا في البلاد وهي قادرة بفضل خبرة وحنكة وقوة وديناميكية مناضليها وقواها الحية على مزيد التطور والانغراس والتقوي ولما لا الانتقال من المعارضة إلى الحكم خاصة في ظل فشل اليمين في بلورة الحد الأدنى من طموحات الشعب التونسي.
محمد ذويب