“القلق من تصدع الهوية”

أضيف بتاريخ: 31 - 07 - 2018

مركز دمشق للأبحاث والدراسات – مداد

30 جويلية 2018
د. كريم أبو حلاوة

تبدو عمليةُ استكمالِ بناءِ الهُويّة الوطنيةِ –كي لا أقول: هندسة الهُويّة– مُنتظرة ومطروحة على السوريين راهناً ومستقبلاً، فسيرورة الانتقال والعبور نحو الهوية التي تمكّن الجميع من الإسهام في معمارها وتعطيهم الحقَّ والفخر في الانتماء إليها، بدءاً بالمناهج المدرسية ومروراً بالسياسات الثقافية والتنموية، ووصولاً إلى صيغة توافقية للعقد الاجتماعي الجديد والدستور المنبثق عنها، بمعنى: أن استكمال بناء الهوية لا ينفصل عن مهمة استئناف بناء الدولة الوطنية بمؤسساتها ومشروعيتها بوصفها مشروعنا تجاه المستقبل وتجاه أنفسنا.
فما السبيل الذي يمكن الركون إليه في تفكيك أزمة الهوية، وما هي الاعتبارات التي يمكن اعتمادها كمبادئ حاكمة للتوصل إلى حلول؟ في محاولة الإجابة يمكن التفكير بالمبادئ والأسس الآتية:
1.الإقرار بأن التنوع والاختلاف واقع موضوعي وموجود في كل المجتمعات، وأن أي ادعاء بالصفاء أو النقاء، سواء أكان عرقياً أم دينياً، سوف يوصل إلى العنصرية والتعالي، وبالتالي إلى التعصب، وسرعان ما يولّد ميلاً إقصائيّاً يصعب إيقافه.
2.الاعتراف بأنَّ من حقِّ الجميع، رغم كل ما بينهم من اختلافات وتمايزات، التعبير عن وجودهم أو معتقداتهم أو هُوياتهم، (التنوع ضمن الوحدة) دون الإساءة أو التطاول على حق الآخرين المماثل، تماماً كما تفهم العلاقة بين حرية الفرد وحرية المجتمع وبين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، والتي تحاول كل الجهود والأفكار والنظريات السياسية الإجابة عنها وتفسيرها، كلٌّ من موقعه.
3.الاحتكام إلى مبدأ المواطنة الذي يُقرّ صراحة بحقّ الإنسانِ الفردِ، بوصفه إنساناً بغض النظر عن لونه أو جنسه أو دينه، أو أي انتماء آخر، في التمتع بكل الحقوق التي أقرّها القانون العام أو الدستور، بهذا المعنى يتحوّل مفهوم الأقلية والأغلبية إلى مفهوم سياسي يخضع لمبدأ التنافس، ولا يبقى مقتصراً على الأغلبية العددية لهذا الطرف أو ذاك.
4.عَدُّ الاندماج الاجتماعي وتقوية أواصر الوحدة الوطنية من صلب مهام الدولة الحديثة؛ ذلك في مواجهة تحديين في آن معاً، تحدي الانقسام الداخلي وتجزيئ الكيان الوطني، وتحدي الغرق في تيار العولمة المتنامي النفوذ الذي يهدد سيادة الدولة الوطنية بقوته الاعلامية والمعرفية والمالية، وصولاً إلى نفوذه السياسي، أي محاولة التخلص من خطري الانفلاق والتقوقع من جهة، والغرق في خضم العولمة الجارف وفقدان الذات من جهة أخرى، وهذا المعنى هو الذي حاول الزعيم الهندي “المهاتما غاندي” أن يوصله عندما قال: “سأفتح نوافذي للريح من كل الجهات، لكني سأحرص على أن لا تقتلع جذوري”.
5.يمكن ملاحظة أن قلق الهوية وأزمتها وسؤالها هو قلق الطرف المهدد والضعيف والعاجز عن تحقيق ذاته على المستويين الفردي والجمعي، ولا أدلُّ على ذلك من واقعة أنَّ اليابانيين والروس والألمان والأمريكان والصينيين وسائر الشعوب المتقدمة، لا تشعر بالخوف ولا تطرح سؤال الهوية كما نفعل نحن العرب أو السوريين، ولعل السبب في ذلك واضح، ويعود في جوهره إلى تلك الشعوب تنتج وتعيد صياغة هويتها باستمرار، بسبب نجاحاتها في الاقتصاد والتنمية والبحث العلمي وسواها من حقول الإبداع المعاصرة.
6.التركيز على القواسم المشتركة في تكوين الهوية الوطنية المتصلة بالذاكرة الجمعية والفضاء الثقافي والحضاري المشترك المرتكز، أساساً، على اللغة كعنصر تكويني “Genetic” من عناصر الهوية، إلى جانب المعتقدات والأعراف والعادات والخبرات المشتركة وأنماط العيش والسلوك، وكل ما يكتسبه المرء بوصفه عضواً في الجماعة، فضلاً عن المعارف العامة والحس السليم، كأجزاء من تعريف الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الموسّع، وهي مكوناتُ الثقافةِ التي تميّزُ شعباً أو مجموعة بشرية/ أمة عن سواها. يأتي كل ذلك من ضرورة تحصين الذات وبناء مقومات بقائها، من موقع الراهنية والفعل، لا من موقع الاكتفاء بالتلقي السلبي وممارسة ردود الأفعال إزاء ما يحدث.
7.آن الأوان لإعادة النظر بالمسلمات والبداهات والمخاوف المتصلة بموضوع الهوية؛ بل إن الوقت قد حان لنقد الكثير من الأفكار والرؤى التي سلمنا بصحتها طويلاً لتبين الوقائع والأحداث التي تباغتها بأنها لم تعد صالحة أو كافية للتفسير والفهم، ما يعني أننا بحاجة إلى تفكيك المقولات وتحديد المفاهيم وفحص البداهات، وبما يمكننا من إعادة قراءة وتحليل خطابات الهوية وأوهامها؛ ذلك لإنتاج فهم مركّب ومعرفة نقدية للتعامل مع مختلف الخطابات والأوهام والمستجدات، وهذا ما ينطبقُ، أساساً، على الهويات المفخخة المبنية على انتماءات تقليدية ما قبل حديثة (الإثنية – المذهبية – الطائفية – العشائرية – القبلية… إلخ)، والتي تتعايش مع الانتماء الوطني الحديث تارة وتدخل في صراع وتنافس معه تارةً أخرى، وهي مصدرُ التهديدِ الداخليِّ الأساس للهوية الوطنية إلى أمدٍ غير منظور.