“أقدام سوداء” وزنود والمتوج أبيض (ج.1)

أضيف بتاريخ: 20 - 07 - 2018

ليست الأقدام فقط، كذلك العقول وكذلك الأيدي والأذرع، أو لعلها التمثيلة الأمثل لمخلوق ماري شيلي، بل لعله البلد الوحيد في العالم الذي بموجب نطقك للغته تصبح مواطنا بالقوة بقطع النظر عن تموضعك الجغرافي وموقفك السياسي…
على الخريطة تمسح فرنسا قرابة ال650 ألف كلومتر مربع فقط .ولكن مجالها الحيوي يمتد إلى كل البلدان الناطقة باللغة الفرنسية، بل وحتى تلك التي تأتي اللغة الفرنسية فيها في المرتبة الثانية. وتبعا لذلك لك أن تتخيل الأجزاء الأكبر والأعظم من افريقيا، ومجموعات الجزر المتناثرة في المحيط الهندي والكاريبي، وبعض الأقطار في آسيا. القوة الحقيقية لفرنسا هي قدرتها على احكام السيطرة على مجالها الحيوي، بل وتطويرها لنظرية المجال الحيوي، وتطوير أدوات التنفيذ. يظهر في الأدوات الجديدة وجه الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأطفال وحقوق النساء وحقوق السجناء… وهكذا. منظومة طويلة من الحقوق تقوم على رأسها جمعيات تحت السيطرة، حتى تصبح سيادة الدولة بالمعني الحقيقي غير موجودة فعلياً. ويصبح معنى السيادة أن ترتبط مصلحة أي بلد فرنكفوني مع مصلحة فرنسا. الأمثلة أكثر من تحصى، ولكن تبقى القارة الافريقية هي المجال الأبرز و الأمثل الذي تتجلى من خلاله الهيمنة الفرنسية، والفضاء الأرحب لرعاية المجال الحيوي. فافريقيا تحظى بمكانة متميزة في السياسة الفرنسية، بل انها تمثل العمود الفقري في استراتيجيات فرنسا العالمية، واستعادة قوه الدولة الفرنسية تاريخيا. ويمكن فهم ذلك أساسا من خلال التوجه الفرنسي المنفصل عن المسارات الأوروبية خصوصا، والدولية عموما كلما تعلق الآمر بالمصالح الفرنسية في افريقيا، كما حدث في ليبيا و مالي، والانخراط الفرنسي الاستباقي لأي موقف دولي شامل. فعلى الرغم من التقارب الكبير بين الدول الاوروبية في صياغة الاستراتيجيات الأمنية والسياسات المشتركة، واتخاذ المواقف المتطابقة إلى حد كبير بخصوص ما يحدث في المشرق العربي، بل وحتى في شمال افريقيا، إلا انه كلما تعلق الأمر بالمصالح الفرنسية في افريقيا ، نجدها تتخذ مواقف فردانية للدفاع عن مصالحها. وخاصة بعد السنوات الأخيرة الحبلى بالأحداث والمتغيرات على المستوى الإقليمي والدولي. ما دفع فرنسا إلى الانتباه لضرورة تجديد سياساتها التاريخية تجاه القارة السمراء، وانتهاج أدوات استراتيجية معدلة وأكثر فعالية وتشاركية مع الفاعلين الأفارقة، لإعطاء نفس جديد وأكثر عمق للوجود الفرنسي، وإحلال شركات تبعية جديدة، وأدوات جديدة في اطار تفعيل العلاقات التاريخية مع مستعمراتها. وضمن هذا السياق تم تعبيد الطريق إلى الإليزيه أمام فتى روتشيلد المدلل ايمانويل ماكرون الذي حل على عجل للتبشير بسياسته الافريقية. فدشن عهده بزيارة القوات الفرنسية المتمركزة في مالي، لإتمام صورة الرئيس الذي يعتلي جادة الشانزليزيه على متن مدرعة عسكرية. هو المرشح الفرنسي للرئاسة الذي القى قصيدة غرل في افريقيا جوابا على سؤال لصحفيي لوموند قائلا: “حين أنظر إلى أفريقيا، أرى بالفعل قارّة المستقبل. افريقيا توشك على إنجاز تحوّل لا سابق له، بنموّ متواصل منذ سنة 2000، وعمران وطفرة في الطبقات الوسطى، وتنمية للقطاع الخاص، وشبيبة خلاقة ودينامية. هنالك بالطبع تحديات يتوجب أن تواجهها افريقيا: الديموغرافيا، الأوبئة، الاختلالات المناخية التي تعاني منها، حالات انعدام التكافؤ، وضعف الحكم. ولكنني مقتنع أنّ افريقيا سوف تفاجئ العالم بديناميتها. إنّ من مصلحتنا أن نكتب صفحة جديدة في علاقتنا مع أفريقيا”.
هو نفسه الرئيس المنتخب الذي رد على سؤال لصحفي افريقي على هامش قمة العشرين بهامبورغ حول اذ ما كان ثمة امكان لخطة مارشال خاصة بإفريقيا قائلا
” إنّ خطة مارشال تدور أولاً حول إعادة البناء، المادي، في بلدان تمتلك توازنها، وحدودها، واستقرارها تحدّي أفريقيا مختلف تماماً، إنه أعمق بكثير، إنه حضاري اليوم ”
و طبقا لهذا فقد تكون جرائم الحرب التي ارتكبها المستعمر في افريقيا و التي أدانها بشدة المرشح الشاب ليست اكثر من أضرار جانبية قد يضطر اليها الرئيس المنتخب و يقدم عليها اذا تطلب الأمر ليس في افريقيا فقط و لكن على طول المجال الحيوي الممكن لفرنسا كما حدث في سوريا منذ بضعة أشهر حين انفردت القوات الفرنسية بقصف موقع شمال دمشق بزعم تواجد وحدات لإنتاج أسلحة كيمائية أو ذلك الموقف الحاد الذي اتخذته ايزاء ما يعرف بعملية غصن الزيتون و الهجوم الذي قامت به تركيا على عفرين السورية لقمع قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات “حماية الشعب” الكردية المتهمة بتهديد الشريط الحدودي الجنوبي لتركيا، وقامت فرنسا بصفتها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن بالدعوة لاجتماع طارئ للمجلس لبحث الهجوم التركي على عفرين. وردًّا على تحركات باريس، أعلن وزير الخارجية التركي أن قيام فرنسا بذلك يدل على وقوفها بجانب تنظيمات إرهابية في سوريا، ومن ثمّ تحتفظ تركيا بحقها في رد الفعل المناسب لردع تلك التحركات… ولا يمكن فهم موقف باريس الا ضمن سياق واحد هو اعادة اهتمام فرنسا بالشرق الأوسط و تدشين عصر “الامبراطور الشاب” ايمانويل ماكرون والقطع مع السياسة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط التي وضع أسسها شارل ديغول ،القائمة على فكرة خلق مسافة وتمايز عن السياسة الأمريكية في المنطقة… فطالما دعمت باريس حركات عدم الانحياز، وأبعدت نفسها عن كل تدخل عسكري مباشر في صراعات الاقليم، كرفضها الانضمام الى التحالف الدولي في عام 2003 الذي أطاح بنظام حكم صدام حسين، وكانت قبل ذلك تقدم نفسها كمتنفس للدول النامية و الراغبة في الخروج من فلك الولايات المتحدة و الاتحاد السوفياتي السابق طوال الحرب الباردة… و لكن ساكن الإليزيه الشاب أفصح عن انتهازية قصوى تمثل السمة الأبرز للاستراتيجية الجديدة التي تتبعها باريس، فكونها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، وتتمتع بحق دعوة المجلس للانعقاد وفقًا للمادة السابعة من الميثاق هو ما يمنحها ثقلًا دوليًّا تستطيع به أن تكسب بعض الحلفاء الراغبين في تجريم بعض الأعمال المسلحة على الأراضي السورية دوليا. وما يعني فرنسا أساسا ليست الفصائل المسلحة ولا حتى نظام بشار الأسد وانما الدور الروسي في سوريا، إذ يمثل الدور الروسي القيد الأساسي لمزيدٍ من التحركات الفرنسية الحرة التي من شأنها تعظيم نفوذها مع أطراف الصراع؛ إلا أن هذه الاستراتيجية ما هي إلا إعادة إنتاج للسياسة القديمة الهادفة لموازنة النفوذ الأمريكي، واحداث قوة جذب للحلفاء عبر توفير سياسة مستقلة عن روسيا أساسا ،اذ أن اي تسوية تتم برعاية روسية من شأنها إضعاف فرص فرنسا في الظهور في المشهد كفاعل استراتيجي حاسم في الأزمة، مما يقلل من فرص تواجدها في الإقليم. ودون نسيان سعي فرنسا لتكون وسيطا في انهاء ازمة سعد الحريري في المملكة السعودية، ووقوفها الى جانب قطر في الازمة الخليجية، والذي عبرعنه بوضوح قائد القوات الجوية الجنرال مونتكيو بقوله نعمل بكل قوتنا لإنهاء الأزمة وفي الوقت نفسه نبلغ قطر بأن الأزمة لن تمس شراكتنا ولن تغير سياستنا ولا تعاوننا ولا علاقاتنا الممتازة معها. مشيرا لاتفاقية الدفاع المشتركة.
ولكن تبقى افريقيا حلقة النفوذ الرئيسية في سياسة فرنسا و مصالحها كدولة تاريخية، وهي الشريك الأول اقتصاديا و أمنيا و سياسيا، ولا ينفك الرئيس الشاب منذ قدومه يبث الرسائل للدول الكبرى من جهة نحو الصين وصراع النفوذ المتزايد على الأسواق التجارية ،ونحو الولايات المتحدة الأمريكية على الطاقة و القواعد العسكرية ،و مع روسيا التي تتهيأ لتنخرط بقوة في التسوية السياسية و الأمنية في ليبيا بعد حسم الموقف السوري بنسبة كبيرة. ومفاد هذه الرسائل للقوى الكبرى أن أي تغيير في موازين القوى افريقيا أو اعادة رسم للخرائط والمسارات الأمنية و الاقتصادية و السياسية لن تمر دون الأخذ بعين الاعتبار أولوية و أفضلية المصالح الفرنسية افريقيا .وفي نفس الوقت توجيه رسالة أخرى و بنفس الحدة للقوى الاقليمية الفاعلة كالجزائر و المغرب و سينغال و نيجيريا، أن أي سياسات أمنية أو اقتصادية مع طرف ثالث غير القوى الافريقية و فرنسا لا يمكن تمريرها. وبالمقابل تقدم فرنسا كل الدعم الازم لحشد القوى الافريقية الرئيسية ودفعها للانخراط في المسارات السياسية والأمنية التي تطرحها في المنطقة. فدعمت اتفاق السلام و المصالحة الوطنية بين الماليين الذي انعقد في الجزائر كحل شامل للأزمة المالية، ودعمت موريطانيا في تأسيسها لتجمع اقليمي فرعي على غرار تجمع دول الميدان لقيادات أركان الجيش الذي أسسته الجزائر، ودعمها لمنتدى الامن و السلم في افريقيا المنعقد ببادرة مغربية، الى جانب الاتحاد الافريقي و تجمع الايكواس و ما لا يعد من المنظمات الاقليمية الفرعية الأخرى… كما لا تخفى الأدوار المتغايرة التي تلعبها فرنسا في بقاء انظمة والاطاحة بأنظمة سياسية أخرى كلما تطلبت الشرعية والمراحل الانتقالية ذلك .بل بات من المعلوم ان لا اصلاح من دون صلاحية الانظمة في خدمة المصالح الفرنسية. و لاشرعية دون شرعنة الوجود الفرنسي سواء كان ذلك في غرب افريقيا أو منطقة الساحل الافريقي اين تقبع القواعد العسكرية القريبة جانب مناجم اليورانيوم…

– بلحسن اليحياوي-
– يتبع-