تركيا بين ارادة انتصار الشرق والشراكة مع سورية

أضيف بتاريخ: 28 - 09 - 2017

عند إعلان الإدارة الأمريكية على لسان المتحدثة باسم خارجيتها “رايس” مشروع (الشرق الأوسط الجديد)، ومع بدء التنفيذ، استطاعت اجترار العديد من القوى الإقليمية في المنطقة نحو مستنقع الفوضى الخلَّاقة، بعضها بالتَّبعية كبعض دول وممالك “النظام العربي الرسمي” وبعضها الآخر بالمصالح والأحلام الواهية وعلى رأسها “تركيا”، ولم يكن لديناميكية تلك الفوضى التدميرية أن تمتلك القدرة التَّنبئية الكافية بارتداداتها وانعكاساتها على ذاتها ومعها من اجترَّتهم، أمام قوى إقليمية ودوليَّة أعدَّت عُدَّتها وقرَّرت أن تصمد وتجابه وتواجه هذا المشروع، فكان أن أُنجزت وظهرت حلقة مقاومة عنوانها (طهران، بغداد، دمشق، بيروت) برعاية دولية روسية استطاعت استمالة ميزان القوى، وقلب التنبؤات الدولية رأساً على عقب..

ومع انقسام مصالح معسكر محور العدوان، تِبعًا لارتدادات انكسار وفشل المشروع في عناوينه الأساسية الكُبرى، والتي كانت تخدم مصالحهم التوسعيَّة الجامعة، شهدنا انقسامات واستدارات وأزمات كبرى تعرَّضت لها تلك القوى المحمولة على المشروع الأمريكي، والتي كان أبرزها انقسام الحامل الموضوعي للمشروع وهو “الإسلام السياسي” بشقَّيه “الإخواني” بزعامة تركيا، و”الوهابي” بزعامة المملكة السعودية، والذي تمظهر نهايةَ تحت عنوان “الأزمة الخليجية”، حيث بدأت تلك الخلافات ترسم معالمَ مشهدٍ إقليميٍّ دوليٍّ مختلف، نرى إن لم تستطع بعض القوى الإقليمية النظر له بعين إعادة حسابات المصالح المشتركة والخروج من أحضان التَّبعيَّة والهيمنة الأمريكية، والمساهمة الجادة في إنجازه، سيبقى حتماً دورها الوظيفي مرهوناً في الإبقاء والضغط على الإقليم داخل مستنقع من الدماء تقتتل بداخله جميع مكوِّنات شعوب المنطقة..

إن الدور الذي سبق وارتضت أن تلعبه القيادة التركية على هدى الحلم العثماني وأهداف حلف “الناتو”، حوَّل العمق الإستراتيجي التركي الذي تحدَّث عنه “داوود أوغلو” في كتابه إلى أداة وذراع متقدمة لحلف شمال الأطلسي في المنطقة، عبثاً بأمن الإقليم وارتداداته على الداخل التركي، والتحول من سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار إلى العدو رقم واحد لهم في المنطقة، دون أن ترى القيادة التركية مدى قدرة القيادة الروسية على التعاطي مع مثل أزمات “جورجيا” و”أوكرانيا” التي عكست محدودية الدور والقدرة التي يشكلها حلف شمال الأطلسي في مواجهة الإرادة الروسية على جغرافيات تشكل عمقاً استراتيجياً لأمنها القومي المباشر، كما وسبق أن أوضحت القيادة الروسية للقيادة التركية التي تسعى للدخول في منظمة “شنغهاي” أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم وهي عضو في حلف شمال الأطلسي لأن في ذلك تضارباً بين سياسات كلا الحلفين، الأمر الذي يجعل من الشرط الأول على المدى الإستراتيجي البعيد للقيادة التركية في أن تكون شريكاً حقيقياً في الحفاظ على أمن المنطقة وبناء شراكة حقيقية إستراتيجية مع دول الجوار، هو الخروج من عباءة حلف “الناتو” الذي ورَّطها في “ليبيا”، وما انفكَّ عن استخدامها خدمة لتحقيق مصالحه التوسعيَّة الاستعمارية في المنطقة.

بتلك الخيارات والسياسات غير المدروسة، وجدت “تركيا” نفسها داخل مستنقع دماءٍ لم تستطع الخروج منه، وانقلاب الوقائع بشكل كبير على خطابها السياسي الذي انتهجته مع بدء مرحلة الفوضى التي ساهمت بها، فكانت أن ابتدأت عجلة استدارتها بالدوران السريع، دشَّنها تقارباً (روسياً تركياً) ابتدأ مع إعلان اتِّفاقية “السيل التركي” وصولاً لإعلان إنجاز اتفاقيَّة شراء “تركيا” لمنظومة صواريخ الدفاع الجوي s400 من “روسيا”، وتقارباً (تركياً إيرانياً) غير مسبوق عكسه توافق الأطراف الثلاثية (روسيا وتركيا وإيران) في ملف الأزمة السورية، ولعب تركيا لدور المراقب على اتفاقية مناطق “تخفيف التوتر” لضمان إنجاز التسوية مع احتفاظها بهامش مناورة بدعمها لبعض الفصائل الإرهابية المسلحة في سورية، إضافة للزيارة الأولى من نوعها لرئيس الأركان الإيراني “محمد حسين باقري” لتركيا منذ الثورة الإيرانية عام 1979، الأمر الذي أبدى ارتياباً “إسرائيلياً” واضحاً تجاه ذاك التقارب حذرت منه ورقة بحثية أصدرها معهد أبحاث الأمن القومي “الإسرائيلي”، حيث نجد وبعد انتقال تركيا من صفر مشاكل مع دول الجوار إلى أحد أهم الداعمين الرئيسيين لمشروع الفوضى في المنطقة، نجدها وقد بدأت تستعيد علاقاتها الإستراتيجية شيئاً فشيئاً بمعزل عن تبعيتها لهيمنة القرار الأمريكي، الذي بدأ الانفصال عنه منذ أن بدأت “إدارة أوباما” بدعم مشروع حزب العمال الكردستاني في المنطقة بعد خسارتها لورقة “داعش”، ما أفضى لطريقٍ مسدود بين كل من “واشنطن” و”أنقرة”.

قبل أن يبدأ دعم الولايات المتحدة الأمريكية لمشروع “الأكراد” كبديل لأفول “داعش” في المنطقة، كانت “أنقرة” أقرب إلى إقليم “كردستان” منها إلى بغداد، وشهدت خلافات من عهد “نوري المالكي” وصولاً إلى عهد “حيدر العبادي”، وكان العديد من رجال الأعمال الأتراك ينفذون مشاريع واستثمارات تصل لمليارات الدولارات داخل إقليم “كردستان”، بيدَ أن تبدّلاً سريعاً طرأ على المشهد منذ أن بدأت إدارة “أوباما” بدعم وحدات الحماية الكردية والتي استمرَّت حتى عهد الرئيس “ترامب” بل وزادت، الأمر الذي أبدى توتراً وتصعيداً تركياً تجاه أمريكا، _ونحن نميل للاعتقاد أن محاولة الانقلاب التي جرت في تركيا في 15/7/2016 كانت تستهدف إسقاط “أردوغان” واستبداله “بغولن” الأقرب إلى أمريكا، بعد أن انتهى “أردوغان” مع انتهاء مشروع “الإسلام السياسي” الإخواني في المنطقة وفق الرؤية الأمريكية كما نعتقد_، ومع التطور السريع للمشهد الذي شهدته الأيام القليلة الماضية، مع إعلان “مسعود البارازاني” استفتاء إقليم “كردستان” في شمال العراق والذي رافقه دعماً أمريكياً “إسرائيلياً” واضحاً، يعكس مدى الإصرار الأمريكي “الإسرائيلي” في الضغط على أمن المنطقة، بمحاولة إنشاء كيان سياسي هجين على أنقاض العراق المُقسَّم يعبث بالجغرافيا السياسية للمنطقة، مما يضر بمصالح جميع دول المنطقة وأّوَّلها “تركيا”، الأمر الذي يتطلَّب رفضاً صداً فوق أحادي لدرئ أخطار ما يجري، والتطلع نحو شراكة إستراتيجية حقيقية مع دول محور المقاومة، وتجاوز جميع الإملاءات الأمريكية “الصهيو_الأطلسية” التي تعبث بمصالح وأمن “تركيا” والمنطقة على حد سواء.

إذا كانت السياسة هي فن الممكن مؤكدة لغتها بأن حليف اليوم يمكن أن يكون عدو الغد والعكس صحيح، فإن لغة الجغرافية السياسية قد تكون أشد صرامة وحتميَّة لجهة توحيد إرادات مكوِّنات شعوب المنطقة بحكوماتها وأنظمتها ودولها، التي إن هي انفكَّت عن هذه الإرادة عرَّضت نفسها وجيرانها للعبث بأمنها وأمنهم على حدِّ سواء، من هنا نرى دعوة وزير الخارجية السورية السيد “وليد المعلم” للنظر فيما يمكن أن تقدمه القيادة التركيَّة من عروض شراكة حقيقية، ونعتقد أن أولى الشروط السورية الموضوعية للنظر في أية شراكة حقيقية مع القيادة التركية، هي توقف الأخيرة عن دعم الإرهابيين الذين تطلق عليهم “الفصائل المسلحة المعتدلة”، والتعامل مع وحدة قرار الشعب السورية الذي وقف مع رئيسه مسجلاً أعتا البطولات وأنبل التضحيات في سبيل وحدة بلاده واستقلال إرادته، فتركيا دولةً ومجتمعاً تمثِّلُ أحد أهم مكوِّنات هذا الشرق، الذي استطاع بمحور مقاومته تحطيم جميع مشاريع الغرب الانتهازية الاستعمارية على صخرة صموده.

مهند ديب