أضيف بتاريخ: 18 - 02 - 2017
أضيف بتاريخ: 18 - 02 - 2017
مركز الدراسات العربية والأمريكية
“اضطر” الرئيس الاميركي دونالد ترامب على الانحناء لعاصفة الانتقادات الحادة لمقاربته “المنفتحة على التعاون مع روسيا” والتضحية بمستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، بسرعة قياسية. ما يدفعنا لهكذا استنتاج هو “تعديل” الخطاب الرسمي للبيت الابيض نحو روسيا بتبني مفردات متشددة ترضي توجهات ومواقف عدائية لاجنحة المؤسسة الحاكمة تقليديا في الحزبين.
اعقب اعلان “الاقالة،” تغريد ترامب على شبكة “تويتر،” 15 شباط الجاري، بالقول “(شبه جزيرة) القرم استحوذت عليها روسيا خلال ادارة الرئيس اوباما. هل كان اوباما شديد الليونة مع روسيا؟” وزاد عليه الناطق الرسمي للبيت الابيض، شون سبايسر، في مؤتمره الصحفي اليومي بالقول “نتوقع من روسيا اعادة شبه جزيرة القرم.”
السؤال الجوهري والذي وصفه ترامب بدقة هو هل ارتكب مستشاره للأمن القومي “خطيئة” لها ابعاد استراتيجية تحتم اقالته، ام ان اتصاله مع السفير الروسي في واشنطن أمر عادي يندرج ضمن مهامه وصلاحياته. في اول مؤتمر صحفي عقده بعد “الاقالة” اوضح ترامب لجمهور الصحافيين مجيباً ان حادث الاتصال بحد ذاته مبرر ويقع ضمن المهام المنوطة بطاقمه “وان لم يقم بذلك فسوف أكلفه القيام به.”
اذن لماذا “قَبِل” ترامب التخلي عن مستشاره الحميم. هذا يعيدنا الى جوهر المسألة التي شكلت بؤرة صدام بين القادم حديثا للبيت الابيض ومجموعة المؤسسات الاستخباراتية والسياسية الاخرى التي تشاءمت من تصريحات الثنائي ترامب وفلين حول “نهج التعايش مع روسيا بدلا من نهج التصعيد للأعلى وبمستوى الحرب الباردة” التي سادت منذ منتصف القرن المنصرم.
مسألة صراع اجهزة الاستخبارات والبيت الابيض خرجت من حيز التكهن والتحليل الى التداول العام من قبل المؤسسات الاعلامية بمجموعها، تسريبا وتلميحا، والتي اعتبرت الاقالة “انتصار” للسردية الاميركية الرسمية التي تتربص بترامب لتقييد خياراته وربما لما هو ابعد من ذلك.
يشار الى ان الخطاب السياسي لترامب، اثناء حملته الانتخابية وما بعدها، ارسى ارتياحا في الاوساط العالمية لنيته “بلورة آفاق نستطيع فيها التعاون سوياً مع روسيا” في سياق التصدي الكوني للارهاب. وعليه، لم يضمر “المحافظون الجدد” ومخلفاتهم في الاجهزة الرسمية الاميركية عزمهم على تعديل سياسة البيت الابيض فقط، بل وضع ما يستطاع فعله من عراقيل امامه.
اما مستقبل ترامب عقب الهزة الشديدة التي تلقاها فيبدو انه سيتأثر سلباً بما جنت يداه من النزول عند رغبة، ما اضحى مفردة يومية في المشهد السياسي توصيف، “الدولة العميقة” او “دولة الظل” التي تتضمن المؤسسات الاستخباراتية المتعددة والبنى السياسية الرسمية في الحزبين اضافة لاخطبوط الاعلام الاميركي. باختصار شديد هو ترميز لكل ما يمت للنموذج الاقتصادي “النيوليبرالي،” الذي يعتاش على خصخصة المؤسسات العامة ومرافق الدولة المختلفة، لا سيما الأمن والاستخبارات.
ترامب، في تقدير ثبت انه مركز مقتله، وجه سهام انتقاداته المباشرة للاجهزة الاستخباراتية والمؤسسات الاعلامية، ما يفسر بعض الشيء تلاحم “معسكر اعداء” ترامب، ناهيك عن المصالح الاقتصادية الكبرى في قطاعي النفط والمصارف المالية وان بدرجة اقل حدة.
للتدليل على عمق الشرخ بين المؤسسة التقليدية والرئيس ترامب، نقلت اسبوعية ذي نيشن، في عددها الاخير، عن ضابط سابق في وكالة الأمن القومي، جون شيندلر، قوله ان زملاءه داخل “المؤسسة العميقة” قد وضعوا ترامب نصب اعينهم ما ان “ترامب سيقضي صريعا في سجنه،” اي خلال ولايته الرئاسية، وليس بالضرورة بالمعنى الحرفي للتعبير.
سوريا، من المفيد المرور على مذكرة اعدها مايكل فلين، عام 2012، ضمن مسؤوليته كمدير جهاز الاستخبارات العسكرية والتي “انتقد” فيها الدعم الاميركي “للمعارضة السورية .. والذي من شأنه ان يؤدي الى انشاء كيان سلفي، معلن او سري، في الشطر الشرقي من سوريا.”
يجدر لفت الانتباه ايضا الى “توقيت” افراج وكالة الاستخبارات المركزية، السي آي ايه، مطلع الاسبوع الجاري، عن مذكرة داخلية تتعلق بتغيير النظام السوري مؤرخة في 30 تموز/يوليو 1986، بعنوان سوريا: سيناريوهات للتغيير السياسي الجذري استعرضت “جملة من الاحتمالات قد تؤدي للاطاحة بالرئيس الاسد (الاب) او تسفر عن تغيير جذري ما في سوريا لسنوات قادمة؛” ابان عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان، وفي اعقاب فشل تنظيم الاخوان المسلمين – فرع سوريا، من مركز ثقله في مدينة حماة، في استدراج دمشق لأتون حرب أهلية.
في الشأن السوري ايضا، افرجت السي آي ايه عن مذكرة سرية اخرى تاريخها 14 ايلول/ سبتمبر 1983 بعنوان أعدّوا عضلات حقيقية لاستخدامها ضد سوريا تروج لاستخدام اراضي وامكانات الدول المجاورة في اطلاق عمليات مسلحة للقوات الخاصة ضد سوريا بدعم “دول عربية.” الحديث عن التدخل الاميركي في سوريا يتطلب فرد مساحة اوسع، ربما سيجري تناوله مفصلا في المقبل من الزمن.
استنادا الى “خضوع” ترامب لضغوط المؤسسة الاستخباراتية عند اول منعطف له، كما يقول البعض، باستدارته والانقضاض على سياسته المنفتحة على روسيا، فمن المرجح ان يفعل ذلك ايضا بسوريا نزولا عند رغبة المتشددين، كانت اولى دلالاتها “تسريبات” منسوبة للبنتاغون تفيد بأن واشنطن تدرس “خيار” ارسال قوات برية ولو محدودة لسوريا.
ماذا بعد فلين؟
غياب فلين عن المشهد السياسي كان سببه تقديمه “معلومات غير مكتملة” لنائب الرئيس مايك بنس تخص محادثة هاتفية اجراها الاول مع السفير الروسي يعتقد انها تناولت سيناريوهات لرفع العقوبات. التيار المتشدد في الكونغرس اعتبر “تهميش” بنس فرصته للانقضاض على الرئيس ترامب وتعديل بوصلة توجهه نحو روسيا، والنيل من دائرته الضيقة.
خروج فلين السريع اعتبره بعض المراقبين فضيحة كبرى مبكرة في مطلع عهد ادارة جديدة وقد تضفي الى “اكبر هزة تطال الاستخبارات الاميركية” منذ عقد السبعينيات وتشكيل لجنة فرانك تشيرش للتحقيق في تجاوزات السي آي ايه؛ وتهيئة لاستهداف اقرب المستشارين لترامب وعلى رأسهم ستيف بانون ربما.
بنس، بالمقابل، يأتي من رحم المؤسسة الحاكمة خاصة تيارها الايديولوجي المتشدد دينيا وتيار حزب الشاي بشكل أدق، وكان مرشحها المعول عليه تشذيب اندفاعات ترامب خارج السياق الرسمي المعتاد. كما لبنس علاقات وثيقة مع الاخوين كوك، ابرز الداعمين للمرشحين المتشددين وهما اول الداعمين لتيار حزب الشاي.
بعد طول مراهنة من اقطاب مختلفة من المؤسسة الحاكمة، اعتذر “المرشح” روبرت هاروورد رسميا عن تولي منصب مستشار الأمن القومي، مساء الخميس 16/ شباط الجاري، والذي كان يعول عليه وزير الدفاع الجديد مايك ماتيس وقادة كبار آخرين، خاصة لماضيه العسكري كنائب اميرال في سلاح البحرية وقوات الضفادع البشرية، ونائبا لماتيس في قيادة القوات المركزية.
سيستمر نائب فلين، اللواء كيث كيلوغ، في شغل منصب مستشار الأمن القومي بالوكالة في المرحلة الراهنة، بقرار رئاسي. من ضمن الاسماء المرشحة سابقا للمنصب، اضافة لهاروورد، مدير السي آي ايه السابق ديفيد بيترايوس، الذي نسب اليه لدى اعداد هذا التقرير انه ينأى بنفسه عن المنصب. ازمة الكفاءات المطلوبة للمنصب الحساس قد تستمر بعض الوقت في ظل مناخ التجاذب والصراع بين اقطاب المؤسسة المختلفة وعزم ترامب على تعيين اشخاص محل ثقة وولاء له.
تجسس على الرئاسة
ثابرت المؤسسات الاعلامية، المرئية والمقروءة، على نشر ما اعتبرته نص محادثات خاصة اجراها الرئيس ترامب مع رئيس وزراء استراليا ورئيس المكسيك، تباعا، فسرها ترامب بأن “احد ما داخل الاجهزة الاستخباراتية” اخذ على عاتقه تسريب المضمون للصحافيين – ودرج على ترديد ازدرائه لتلك المؤسسات علانية. وصعدت وتيرة “تسريباتها” لتصطاد مستشار ترامب للأمن القومي، مايكل فلين، والايحاء بأنه اجرى محادثة هاتفية مع السفير الروسي تناول فيها مسألة العقوبات الاميركية.
تتراكم الاسئلة حول الجهة التي قامت بالتسجيل وتفريغ المكالمات وقرار تسريب مضمونها للاعلام، خاصة من المؤسسات الثلاث الكبرى: وكالة الأمن القومي، مكتب التحقيقات الفيدرالي – اف بي آي، ووكالة الاستخبارات المركزية. اذ اوضحت شبكة بلومبيرغ للانباء، 14 شباط، انه “من النادر جدا ان يتم ابلاغ صحافيين حول اجراءات الحكومة لمراقبة اتصالات تجري بين مواطنين اميركيين، ناهيك عن مسؤولين رسميين رفيعي المستوى.”
واردفت الوكالة ان “الافصاح الانتقائي لتفاصيل محادثات خاصة تخضع لمراقبة الاف بي آي او وكالة الأمن القومي يوفر القدرة لسلطة الدولة تدمير سمعة (المستهدف) من وراء ستار هوية مجهولة.”
اما يومية الاوساط المالية بالغة النفوذ، وول ستريت جورنال، 13 شباط، فقد وجهت اصابع الاتهام للمؤسسات الاستخباراتية بمجموعها بالقول “ان كان السيد فلين تحت مراقبة الاستخبارات الاميركية، يتعين ابلاغ السيد ترامب بالمبرر .. فالبيت الابيض برئاسة ترامب بحاجة لمعرفة ما يجري مع السيد فلين (وكذلك) مع جواسيس الولايات المتحدة.” وتركت الصحيفة باب التكهنات مفتوحا على جملة احتمالات لمسؤولية الاف بي آي في “المراقبة والتسجيل السري لفلين ومسؤولين آخرين في البيت الابيض، تنفيذا لقرار وزارة العدل.”
رئيس اللجنة الفرعية الدائمة للاستخبارات في مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، دفين نيونيز، عبر عن بالغ استيائه لتسريب معلومات عالية السرية قائلا “يبدو ان ثمة جهد مدبر بعناية للنيل من (مايك) فلين وآخرين في الادارة .. فتسريب مضمون مكالمات هاتفية جرت بين الرئيس ونظرائه من الزعماء الآخرين تشير الى نمط مسلكي” بعيد عن العفوية.
ضابط سابق رفيع المستوى في وكالة الأمن القومي، ويليام بيني، اكد دون ادنى شك ان الوكالة “ترصد المكالمات الهاتفية للرئيس دونال ترامب .. بكل تأكيد.” وذهب بيني في تصريحاته الصحافية الى ترجيح مسؤولية وكالة الأمن القومي عن تسريب المعلومات الدقيقة التني ادت بالاطاحة بمستشار ترامب للأمن القومي.
واستدرك بالقول انه “في حال لم تكن الوكالة ضالعة بذلك، فهي بالتأكيد تمتلك البيانات الخاصة بذلك،” لا سيما عند الاخذ بعين الاعتبار ان جهازي الاف بي آي ووكالة الاستخبارات المركزية لديه الصلاحية المباشرة للتعامل مع قاعدة بيانات وكالة الأمن القومي دون ان يكون للاخيرة “آلية رصد ذلك. بل انه لا تتعقب جهود موظفيها للوصول الى تلك البيانات.”
تعاملت المؤسسات الأمنية والاستخباراتية مع بياناتها باقصى درجات السرية. اما وان مضى احد المسؤولين الكبار بطلب معرفة هوية مسؤولين آخرين خضعوا او يخضعون للمراقبة فسيرفض طلبه ويعتبر خارج السياق العملياتي. وسبق لوكالة الامن القومي تعطيل مصادقة مجلس الشيوخ على مرشح الرئيس جورج بوش الابن لمنصب الممثل الدائم في الامم المتحدة، جون بولتون، عقب تكرار محاولته عشر مرات لمعرفة معلومات “سرية” ابان فترة خدمته كوكيل لوزير الخارجية لشؤون الحد من الاسلحة.
الامكانيات التقنية والبشرية والمادية المفتوحة لدى المؤسسات الاستخباراتية كانت محط قلق واهتمام قلة من السياسيين الاميركيين الكبار. السيناتور الشهير فرانك تشيرش حذر في تقريره، عام 1975، لتقصي تجاوزات الاجهزة قائلا ان “..القدرات التقنية التي وفرتها المنظومة الاستخباراتية للحكومة (الاميركية) بامكانها توفير الفرصة للدولة لفرض جبروتها واستبدادها بصورة شاملة، ولن تلقى مقاومة من اي كان .. ” واضاف محذرا انه ينبغي على السلطة التشريعية تعزيز جهودها الرقابية على تلك المنظومة “التي تمتلك تلك التقنية العالية وخضوعها للقياتم بمهامها بما يتسق مع القوانين السارية والحيلولة دون اقترابنا من الهاوية التي لن نجد طريقا للعودة منها.”
ادارة عرجاء قبل أن تبدأ
من الواضح ان هناك اجماع بين السياسيين حول ما آلت اليه “الهزة الأمنية” التي اجتاحت المؤسسة الحاكمة واسفرت عن تسيُّد المنظومة الاستخباراتية بمجموعها وتحكمها بمفاصل السياسة الاميركية، داخليا وخارجيا.
ترامب، كما اسلفنا، سريعا ما استدار لتعديل توجهاته الخارجية الخاصة بروسيا ليرسي على شاطيء مغاير لوعوده الانتخابية وتصريحاته المتفائلة بالتعامل والتعاون مع موسكو فور تسلمه مهام منصبه.
يبدو ان ترامب فضل التخلي عن مستشاره للأمن القومي والانحناء امام العاصفة الهوجاء، بل لم “يسمح لفلين المرافعة عن نفسه” عقب تعرضه للانتقادات القاسية. وسرت انباء بين اعضاء فريق ترامب ان الرئيس “ابلغ (فلين) بعدم التحدث مع وسائل الاعلام .. بل لم يتم السماح لمساعديه مراجعة سجل محادثته مع السفير الروسي،” وفق مصادر وكالة بلومبيرغ للانباء.
تراجع ترامب في اللحظة الاخيرة عن ترفيع مستشاره بالوكالة، كيث كيلوغ، الذي افصح لمقربيه انه على اتم الاستعداد لتحمل المسؤولية حين يطلب منه ذلك. ترامب، من جانبه، غرد قبل اجاة نهاية الاسبوع قائلا ان كيلوغ “لا يزال مدرجا على قائمة المرشحين؛” وكان برفقته على متن الطائرة الرئاسية متجها الى ولايتي ساوث كارولينا وفلوريدا.
عقب تراجع مرشحه المفضل روبرت هاروورد، وتمنّع مدير السي آي ايه السابق ديفيد بيترايوس، يجري ترديد ثلاثة اسماء مرشحة: الممثل الدائم الاسبق في الامم المتحدة، جون بولتون؛ اللواء في الجيش المتقاعد هـ. ر. مكماستر؛ ومدير وكالة الأمن القومي الاسبق، كيث الكساندر.