أضيف بتاريخ: 24 - 03 - 2019
أضيف بتاريخ: 24 - 03 - 2019
-مركز الدراسات الأمريكية والعربية-
الولايات المتحدة “لا تخشى استعادة تطبيق مبدأ مونرو .. (فنزويلا) بلد يقع في حديقة نفوذنا وكانت هدفاً (للسيطرة) لكافة الرؤساء الأميركيين منذ (الرئيس الأسبق) رونالد ريغان ..” هكذا تفوه مستشار الأمن القومي جون بولتون، بعنجهية وصلافة معهودة، مطلع شهر آذار الجاري، مقروناً بتسريبه المتعمد خطياً أمام الصحافيين أن جدول أعماله يتضمن إرسال “5،000 جندي لكولومبيا،” تهيئة لتدخل عسكري مباشر سرعان ما تعثر أمام تصميم الشعب الفنزويلي وقيادته على التصدي الحازم لواشنطن.
“مبدأ مونرو” باختصار شديد عنوان الاستراتيجية الأميركية ، منذ عام 1832، للسيطرة التامة لواشنطن على كامل القارة الأميركية الجنوبية “وإقصاء دول الاستعمار الاوروبي” التقليدية عنها. تدخلت واشنطن عسكريا وبشكل مباشر نحو 56 مرة لتغيير نظم الحكم المتعددة منذ مطلع القرن العشرين وحده، دون احتساب محاولاتها المتعددة بانقلابات عسكرية وعصابات الكونترا والقوات الخاصة والحصار الاقتصادي والديبلوماسي واساليب أخرى.
تعثرت مساعي واشنطن لانجاز انقلاب على السلطة الفنزويلية، عسكرياً واقتصادياً وأعمال تخريب للبنى التحتية وشبكات الكهرباء والمياه، استدعى عودتها إلى أسلوبها العسكري المفضل، بإقامة قواعد عسكرية (جوية) في كل من كولومبيا والبرازيل، تحت غطاء إغرائهما بموقع مميز في حلف الناتو.
كولومبيا ومنذ نهاية أيار/مايو 2018 نالت رضى واشنطن كأول “شريك دولي” لحلف الناتو في اميركا اللاتينية، اعتبرتها فنزويلا خطوة عدائية لوضع جارتها نفسها “في خدمة مخطط لدول نووية تعينها على التمدد في اميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، مما يهدد مباشرة قضايا السلم والاستقرار الإقليمي.”
جدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعوته “لتسهيل” بلاده اجراءات انضمام البرازيل لحلف الناتو خلال استقبالة الرسمي للرئيس البرازيلي الزائر، مطلع الأسبوع، مضيفاً أنه “سينظر في الأمر بقوة سواء كانت عضوية حلف شمال الأطلسي أو شيء يتعلق بالحلف.” ما قصده ترامب في الشطر الأخير هو إغراء البرازيل بعضوية “منظمة التعاون الاقتصادي والتمنية” الدولية التي حاولت دخولها كعضو منذ عام 2017.
فرنسا، العضو البارز في حلف الناتو ودعم السياسات الخارجية الأميركية عارضت موقف ترامب بشدة قائلة إن “معاهدة الحلف لا تتيح انضمام دول غير اوروبية،” وفق البند العاشر الذي ينص على اي محاولة لضم دول غير اوروبية يتطلب تعديلاً لنصوص المعاهدة.
يشار إلى ان الرئيس البرازيل مهد لزيارته الرسمية لواشنطن ببضعة أيام إعلان جهوزية حكومة بلاده “.. السماح للولايات المتحدة استخدام اراضيها لإطلاق صواريخ ومركبات فضائية تحمل أقمارا إصطناعية من مركز “الكانتارا” الفضائي” في جنوب البرازيل.
بالمقابل، صرح وزير الدفاع البرازيلي، فرناندو أزيفو، مطلع العام الجاري معارضته السماح لواشنطن بانشاء قاعدة عسكرية في بلاده “.. لا أرى سبباً وجيهاً لإقامة مثل تلك القاعدة.” وذلك رداً على تصريح الرئيس الجديد بولسنارو خلال مقابلة متلفزة معلناً “.. استعداده للسماح بإقامة قاعدة أميركية في البرازيل.” نائب الرئيس البرازيلي، هاميلتون موراو، أيضاً عارض انشاء القاعدة بثبات منذئذ ورفضه لأي تدخل عسكري أميركي في فنزويلا.
قبل استعراض ما تبقى في جعبة واشنطن من أساليب ضغط، لا سيما الديبلوماسية، تبغي الإشارة إلى العقوبات الإقتصادية المتواصلة على المؤسسات والقوى والشخصيات التي تتعامل مع أو لديها مصالح في كاراكاس، أحدثها كان حجزها لأموال وممتلكات شركة التعدين الفنزويلية، مينيرفين، في الولايات المتحدة، 20 آذار الجاري.
في تبريره لقرار العقوبات الاميركية، أوضح وزير الخزانة ستيف منيوشن أن بلاده “.. استهدفت مصفاة الذهب (المملوكة) لمنيرفين،” أذ يعتبر استخلاص الذهب من أهم مصادر الدخل للاقتصاد الفنزويلي.
قبل القرار الأميركي ببضعة ايام، أوضح الرئيس الفنويلي مادورو أن حكومته بصدد المصادقة على التنجيم بنحو 32 منجم جديد للذهب مؤكداً “.. كل المؤشرات تدل على أن بلادنا ستحتل المركز الثاني عالمياً في احتياطي الذهب.”
فنزويلا، وفق التقارير الإعلامية الحديثة، لديها علاقة تجارية وطيدة مع تركيا لتكرير الذهب الخام في مصفاة تقع بالقرب من شواطيء البحر الأسود بمدينة جوروم التركية، مما حدى بوكالة بلومبيرغ الأميركية توجيه اتهام لتركيا بأنها ضالعة في استخراج ما قيمته 900 مليون دولار من الذهب الفنزويلي خارج البلاد “واستوردت نحو 41 مليون دولار من الذهب الفنزويلي مطلع عام 2018.”
يشار أيضاً إلى سلسلة اتهامات بالاتجار الاقتصادي مع فنزويلا وجهتها واشنطن لعدد من البلدان النامية، منها “.. استيراد يوغندا نحو 300 مليون دولار من الذهب الفنزويلي،” منتصف آذار الجاري.
بالعودة للإجراءات العقابية الأميركية، تزامنت زيارة الرئيس البرازيلي لواشنطن مع إعلان المتحدث باسم الخارجية الأميركية، روبرت بالادينو، عن استيلاء/تسليم المعارضة الفنزويلية مقر بعثتي البلاد، العسكرية بواشنطن والقنصلية بنيويورك.
تلك الخطوة الاستعراضية لم تأتِ من موقع قوة أو ثقة بالنفس، بل سبقها تصريح لنائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، يعرب فيه عن ضيق ذرعه من فشل مساعي “الرئيس المؤقت” خوان غوايدو للإطاحة بالرئيس مادورو، قائلاً لمعاونيه أن غوايدو طمأنهم سابقا بسهولة المهمة التي لن تستغرق سوى أيام قليلة؛ فضلاً عن فشله في تحشيد “مئات الآلاف” من الفنزويلين مرافقته للحدود المشتركة مع كولومبيا “لتحرير” قافلة الشاحنات الأميركية على الطرف المقابل.
كذلك سرعان من ثبت عدم مصداقية إدعاء المعارضة الفنزويلية، وامتداداً الإعلام الأميركي، بتحميل مسؤولية اضرام النيران ببعض الحافلات على عاتق مؤيدي الحكومة الفنزويلية. واضطرت بعض الوسائل الأميركية الرئيسة الإقرار بذلك لاحقا وإن بخجل.
تعثر الغزو العسكري
لا زالت المطالب الأميركية المعلنة تتمحور حول استغلال “كافة الخيارات،” بما فيها الخيار العسكري، إما بالغزو المباشر أو باساليب توظيف الوكلاء المحليين والإقليميين لتلك المهمة في أعمال تخريب واسعة.
للوقوف على حقيقة الموقف، استضافت لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي بعض الخبراء لمناقشة الغزو المباشر، انطلاقاً من شبه إجماع داخل مجلسي الكونغرس بدعم مساعي الرئيس ترامب للتدخل العسكري، وتوقفت عند إقرار أحدهم بأن عملية عسكرية لتحقيق ذاك الهدف – تغيير النظام – تتطلب تسخير “نحو 100،000 إلى 150،000 جندي أميركي لمواجهة نحو ثلاثة أضعاف ذلك العدد من القوات الفنزويلية المسلحة،” في أراضٍ مترامية تبلغ ضعف مساحة العراق.
استمرار مراهنة المؤسسة الحاكمة الأميركية على تطبيق نموذج ما من التدخل العسكري أدى بها لاستحداث قواعد عسكرية شبه ثابتة في البلدين المجاورين لفنزويلا، مع توظيف شبكات من قوى الثورة المضادة، الكونترا، وفرق القوات الخاصة الأميركية للإشراف على عملياتها والتدخل المباشر حينما تقتضي الظروف العملياتية ذلك.
أضحى الرهان الأميركي على ترجيح التدخل العسكري مصدر سخرية حتى داخل بعض أركان المؤسسة، بمن فيهم “المبعوث الأميركي لفنزويلا إيليوت آبرامز،” الذي غابت عنه لهجة الجزم بموعد الإطاحة بالرئيس مادورو، وتعثر كلماته في مؤتمر داخل وزارة الخارجية مؤخراً جاهداً لإيجاد مخرج مقنع للفترة الزمنية السابقة التي حددتها واشنطن، مدعياً أن “.. زمن الفترة الانتقالية وطولها 30 يوماً” لإنهاء مهام الرئيس مادور لن تبدأ قبل مغادرته القصر الرئاسي.
لكن جملة الترتيبات الأميركية “بعيدة المدى” لا زالت تصطدم بحائط متنامي من الرفض الدولي، يشهد عليها تلكؤ مساعيها في حشد دعم “دول صديقة لفنزويلا،” لم تتعدى الخمسين دولة بقليل، على الرغم من التباينات الواسعة بينها جميعا، سواء كانت اوروبية أم أميركية لاتينية؛ وأخذ المؤسسة الحاكمة تلك المسألة بعين الاعتبار خاصة بعد مواجهتها لقرار فيتو مزدوج في مجلس الأمن من قبل روسيا والصين مما نزع عنها محاولات التخفي وراء مزاعم دعم “أممي” للإطاحة بحكومة بلد عضو في الهيئة الدولية.
العقوبات الأميركية، لا سيما الاقتصادية منها، سيستمر صعودها البياني؛ لكن المؤسسات الفنزويلية المختلفة تتخذ إجراءات مبتكرة للتغلب عليها والتعايش مع تداعياتها؛ مسترشدة بتجارب دول عظمى دولية وإقليمية، روسيا وكوبا وإيران. لعل أبرزها كان غضب واشنطن من نقل معاملات كاراكاس المالية الدولية إلى موسكو لتفادي إجراءات المقاطعة وما توفره روسيا من ثقل دولي وعسكري أيضاً في مواجهة مشتركة مع واشنطن.
أما أعمال التخريب في المرافق المدنية والبنى التحتية فلن تتخلى عنها واشنطن، بل ستحاول زيادة وتيرتها قدر الإمكان، كما شهدنا في تخريب شبكة توزيع الكهرباء وتعطل المرافق كافة لبضعة ايام استطاعت فنزويلا بخبراتها الذاتية وبدعم من حلفائها الدوليين إعادة التيار إلى العمل بشكل تدريجي واتخاذ تدابير وقائية لمنع تكرارها.
يبقى ان مقاربة ترامب الجديدة والمعاكسة لمواقف معلنة سابقا حول السعي لتغيير الأنظمة، تجد تأييدا من جهات نافذة في الحزب الديمقراطي رغم معارضتها اللفظية للتدخل والتغيير في فنزويلا بالقوة العسكرية، وقد يغري هذا الوضع ترامب للإقدام على مغامرة قد تكون تحت ستار دعم اطلاق تمرد عسكري انشقاقي او انقلاب عسكري داخلي. تراهن إدارة ترامب على مسعى انشقاق قيادات عسكرية بارزة في فنزويلا تسيطر على مجموعات عسكرية وتوظف جماعات شبه عسكرية معارضة؛ ولا تزال هذه المحاولات تصطدم بلحمة القيادة السياسية والعسكرية لحكومة مادورو الشرعية.