أضيف بتاريخ: 16 - 12 - 2018
أضيف بتاريخ: 16 - 12 - 2018
-مركز الدراسات الأمريكية والعربية-
يستقبل الرئيس ترامب ونظراءه الاوروبيين حلول أعياد الميلاد بقلق بالغ على مستقبلهم السياسي. ربما هي المرة الأولى التي تتضافر فيها “الظروف السياسية وتدني الأوضاع الاقتصادية” لملاحقة قمة الهرم السياسي في واشنطن وباريس ولندن في وقت متزامن دون اجتراح حلولاً شافية تتناغم مع روح الأعياد بالتسامح وبناء الجسور وسخاء العطاء.
السرعة العالية التي تحاصر العواصم الثلاثة أفرزت تساؤلات منطقية وإشارة واضحة لمن يتحكم بقيادة السلطة والتي يبدو أن الرئيس ترامب الأفضل حظاً في التغلب على العقبات الآنية، نظراً لترؤسه الحزب الجمهوري وسيطرته على أغلبية مقاعد مجلس الشيوخ؛ وربما للمخاوف التي تسري بين مناوئيه لجهوزية أتباعه في تفجير الأوضاع السياسية والاجتماعية
إن لزم الأمر.
بيد أن الثابت في المشهد السياسي الأميركي أننا أمام لوحة تتميز بالانقسام العامودي يستعد قطبيه لتسجيل أكبر عدد من النقاط ضد خصمه، عله يكسب الجولة بالنقاط لا سيما والطرفان يتشاطران شح توفر قيادات “حكيمة تمتلك رؤى بعيدة النظر بإمكانها التوجه لدى الجمهور والتأثير في منسوب تأييده” لصالحها في الفترة الزمنية القصيرة نسبياً قبل جولة الانتخابات المقبلة.
معضلة القطبين القيادية واضحة للعيان: هل يستطيع الرئيس ترامب المضي قدماً والفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ وهل يتمكن قادة الحزب الديموقراطي من إلحاق الأذى به لحمله أما على عدم تجديد ترشيحه أو مواجهة خسارة حتمية في الجولة. وربما الأدق أن كان باستطاعة الحزب الديموقراطي الرسو على مرشح رئاسي عابر للخصومات والانقسامات الراهنة يحظى بفرص أعلى للفوز.
ترامب يتحدى خصومه
طلب الرئيس ترامب من قادة الحزب الديموقراطي في مجلسي الشيوخ والنواب، تشاك شومر و نانسي بيلوسي – على التوالي، اللقاء به في البيت الأبيض والظهور بمظهر من يمد يده للعمل مع منافسيه وتسجيل بعض النقاط السياسية. ودون موعد أو اشارة مسبقة، طلب ترامب من الطواقم الصحافية دخول القاعة ليحاضر في الجميع حول برنامجه “الأهم” في تمويل بناء الجدار على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وطلبه “المتواضع” بالموافقة على تخصيص 5 مليارات دولار في الميزانية السنوية المقبلة.
ترامب كان يدرك مسبقاً معارضة ضيفيه للمسألة، لكنه ارادها فرصة لتحشيد جمهوره ومؤيديه، من العامة والسياسيين على السواء، بالتلويح المستدام لحرصه على صون الأمن القومي مقابل تهاون الطرف الآخر.
بدا الرئيس ترامب مزهواً بتهديد منافسيه أنه لن يتوانى عن الاقدام بإغلاق عمل الحكومة الفيدرالية كسلاح ضغط أمام كاميرات الإعلام للحصول على أفضل وأبعد تنازل سياسي، لقراءته السابقة بأن معظم طاقم موظفي الدولة يناصر الحزب الديموقراطي ويضع قادته في موقف بالغ الحرج. ويدرك ترامب أيضاً أن إغلاق مرافق الدولة، في فرصة الأعياد السنوية، يحظى بتأييد من قواعد الحزب الجمهوري، فضلاً عن قياداته المرئية والمخفية، انطلاقاً من التحشيد المزمن بأن الهيكل الحكومي متضخم وينبغي تقليصه إلى أدنى مستوى.
عانى المشهد السياسي عدة محاولات سابقة اغلقت فيها مرافق الدولة، دون ان تترك آثاراً سلبية مستدامة على أي من الحزبين، وتجاوزاها بالمهارات السياسية المعروفة ابتداء من حرص الطرفين على الاستمرار في عمل “الاقسام الأشد ضرورة” لعمل الدولة، قدر حجمها بنحو 25% من المجموع العام للدولة؛ إلى الهروب للأمام للتركيز على الجوانب الأمنية وتخصيص مزيد من الموارد المالية على حساب برامج ومهام اجتماعية وتربوية وصحية بمشاركة الطرفين.
لم يدخر الرئيس ترامب سلاحاً في جعبته لإقصاء منافسيه الضيفين متوعداً أنه سيتغلب على معارضة مجلس النوابفي الدورة المقبلة باجتراح خيار “الحكم باصدار قرارات رئاسية،” من ضمن صلاحياته الدستورية، كما عمد سلفه السابق الرئيس اوباما وآخرين؛ مما يتيح له التغلب مرحلياً على معارضة محتملة داخل أروقة السلطة التشريعية.
ترامب ومن سبقه وما سيلحقه من رؤساء يدركون جيداً أن صلاحية “القرارات الرئاسية” ليس لها مفعول الديمومة وباستطاعة الرئيس المقبل، أيا يكن، الغاء العمل بها وفق “الصلاحيات الرئاسية” المنصوص عليها دستورياً أيضاً.
جولة الانتخابات المقبلة
يتوثب الحزب الديموقراطي لتوجيه مذكرات ملاحقة متعددة لشخص الرئيس ترامب ومساعديه الرئيسيين، كما جاء في الخطاب الانتخابي مطلع الشهر الماضي، يرمي بالأساس لتقييد حركته ومحاصرة خياراته السياسية إلى أقصى حد ممكن؛ ودائماً التلويح بالبدء بإجراءات العزل التي يدرك الطرفين إدراكاً عالياً انها بعيدة المنال في أفضل الأحوال.
وسارعت المدعي العام لولاية نيويوك المنتخبة عن الحزب الديموقراطي، لاتيشيا جيمس، إلى إبلاغ كل ما يعنيهم الأمر بأنها تنوي المضي في “جملة تحقيقات تخص الرئيس ترامب وعائلته والمقربين منه للاشتباه في انتهاكهم نصوص القوانين السارية” فور تسلمها مهام منصبها اواخر الشهر المقبل.
أهمية تصريحاتها وتوعداتها تأتي استناداً لقاعدة مركز نشاطات الرئيس ترامب التجارية في مدينتها، ولها كامل الصلاحية للاطلاع على سجلات وبيانات تخص كافة معاملاته وشركاته المتعددة، سعى مؤيدوه اما لإخفائها أو إتلافها لاحباط محاولات الملاحقة القانونية.
من جملة ما تنبيء به تصريحات المدعي العام لواحدة من أهم الولايات الأميركية نفوذاً وامتدادات تحذير قادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس أيضاً بعدم التساهل للمضي بالمثل واستغلال ما يتوفر للسلطة التشريعية من مزايا خاصة بعيدة المدى لإطالة أمد الملاحقة والحاق أقصى ضرر ممكن في حظوظ الرئيس وحزبه من اعادة ترشيحه على أقل تعديل.
أما الادعاءات والتهم التي تصدرت ولا تزال المشهد السياسي حول تورط الرئيس ترامب مع روسيا فلم يثبت سير التحقيقات المتشعبة عن أدلة مادية بهذا الاتجاه، على الرغم من ادانة اقرب المقربين له بدءاً بمدير حملته الانتخابية، بول مانافورت، وليس انتهاءً بمحاميه الخاص، مايكل كوهين، الذي قدم محامو الإدعاء مذكرة قضائية ضده، قبل بضعة أيام، تتهم الرئيس ترامب بارتكاب “جرائم تمويل الانتخابات؛” على خلفية بعض المبالغ المالية التي قدمت لعاشقة ترامب السابقة ستورمي دانيال.
بيد أن عدد من الخبراء في بند تمويل الحملات الانتخابية أعربوا عن عدم رضاهم أو تأييدهم لمضمون المذكرة. وأفاد المحامي دان باكر بأن “امبراطورية” ترامب التجارية ما هي إلا “ماركة مسجلة” في العرف القانوني التجاري؛ ولذا فإن مساعي الحفاظ على “حماية الماركة،” كمبرر لصرف أموال من صندوق الحملة، لا تندرج تحت بند انتهاك القوانين الخاصة بذلك.
واضاف باكر أن توجيه تهمة بـ “انتهاك قانون تمويل الحملات الانتخابية” لا يخضع للتكهنات، بل هي مسألة ترتبط بتقديم الأدلة والثبوت التي غابت هذه المرة.”
أما اتهام ترامب بالتواطؤ مع روسيا خلال حملته الانتخابية للنيل من خصمه المرشحة هيلاري كلينتون فلم تصمد طويلاً أمام الثبوت الغائبة. وقد أوضحت يومية نيويورك تايمز المسألة ضد خصوم الرئي، ربما عن غير قصد، مؤخرا بالقول أنه “منذ اليوم الأول لبدء تحقيقات موللر (المحقق الخاص)، عوّل خصوم الرئيس على تقريره المرتقب لما قد ينطوي عليه من تهم شبه جاهزة، أو كمصدر تعويذة اتهام للإطاحة بالرئيس ترامب وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء،” أي ما قبل فوزه بالانتخابات الرئاسية. وخيبت آمال منافسي ترامب إذ ليس هناك ما يلوح في أفق تقرير المحقق الخاص بتوجيه إدانة محددة تستدعي البدء بترتيبات عزله؛ وربما الناحية الأهم أن التقرير المرتقب سيخلو من الإشارة الصريحة المبنية على أدلة حسية بأن الرئيس ترامب نسق جهوده مع الجانب الروسي.
تداعيات العزل
ليس كل ما يتمناه الخصم قابل للتحقيق. اجراءات العزل تبدأ بالحصول على تصويت أغلبية مجلس النواب (50+1)، لكنها ستستطدم بعقبة مجلس الشيوخ التي تستدعي موافقة ثلثي الأعضاء (67) على المشروع، وهو أمر غير قابل للتحقيق في ظل التوازنات الراهنة، لا سيما لعدم ضمان تصويت بعض الممثلين عن الحزب الديموقراطي عينه إلى جانب المشروع خشية معاقبتهم انتخابيا في دوائر تميل بأغلبيتها لتأييد الرئيس ترامب.
العقبة الأكبر تتمثل في رد الفعل الشعبي على تلك الخطوة التي بشر بها مراراً الرئيس ترامب بأن قواعد مؤيديه “قد” تلجأ لخيار العصيان المدني وشل الحركة العامة احتجاجاً على “الاستفراد” به على أرضية تهم تفتقد للأدلة المقنعة بالنسبة لهم.
وخاطب الرئيس ترامب جمهوره مراراً عبر وسائل الإعلام المتعددة متوعداً “بثورة غضب عارمة” لمؤيديه أن وصلت الأمور لتلك النقطة. واضاف في مقابلة مع وكالة رويترز للأنباء انه “من المتعذر تنفيذ اجراءات عزل بحق شخص لم يرتكب أي مخالفة بل قام بإيجاد أعظم ازدهار اقتصادي في تاريخ البلاد.”
أمام تراجع فرص العزل ما يتبقى من خيارات أمام الخصوم تتمحور حول إدامة التحقيق من قبل لجان مجلس النواب ضد الرئيس ترامب ومعاونيه، لكن خصومه أيضاً يدركون حقيقة تعاظم لُحمة مؤيديه أمام محاولات الخصوم الديموقراطيين.
عدا عن ذلك، ما يستطيع الخصوم، من الحزبين، تمريره هو اجتراح بعض التشريعات التي ترمي لإحراج الرئيس ترامب وليس إدانته، كما شهدنا مؤخراً في تصويت أغلبية مجلس الشيوخ لصالح قرار يدين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالأسم، المدعوم من الرئيس ترامب.
أما الإقدام على خطوة أشد جرأة ترمي لقطع الدعم العسكري الأميركي للسعودية والإمارات في حربهما الجارية ضد اليمن فتنطوي على جملة مخاطر على أرضية الصلاحيات الرئاسية لتنفيذ السياسة الخارجية وفق الرؤى الرئاسية، بالتوافق مع المؤسسات الاستخباراتية والأمنية والعسكرية، وهي مسالة غير مضمونة النتائج بالنسبة للخصوم.
ما تبقى من خيارات يندرج تحت بند “التمنيات.” أذ تتهيأ رئيسة مجلس النواب المقبلة، نانسي بيلوسي، لتسلم مهامها الدستورية وبذلك تصبح في المرتبة القيادية الثالثة لتسلم زمام أمر البلاد، خلف الرئيس ونائبه. أما نائب الرئيس مايك بينس فلم تتعرض له وسائل الإعلام لحتى الآن، بيد أنه من ضمن الاحتمالات المرجحة للإطاحة به أن تمكن الحزب الديموقراطي من امتلاك القرار بمحاصرته بجملة فضائح تفضي إما لاستقالته أو الإطاحة به قبل أن يتمكن الرئيس ترامب من الإعداد لخليفته ـ كما شهدنا في السابق نائب الرئيس نيكسون، سبيرو آغنيو، يطاح به على خلفية اتهامات له بالفساد وتلقي الرشاوي، عام 1973.
ان تحقق مطلب الإطاحة بنائب الرئيس بينس، قد تجد رئيسة مجلس النواب المقبلة بيلوسي مبرراً للتقدم للمنصب “دستورياً” تسعى بموجبه لتقديم لائحة اتهام لعزل الرئيس ترامب.
لكنها تبقى مراهنات من باب التكهنات لا أكثر، وما نحن مقبلون عليه هو حالة من الاتهامات المتبادلة تمهد للطرفين الإعداد الجدي لخوض جولة الانتخابات الرئاسية المقبل، بأفضل ما يقع عليه/ا الخيار.
الرئيس ترامب، من جانبه، لن يتزحزح قيد أنمله، وفق المعطيات والتوازنات الراهنة؛ والحزب الديموقراطي يقف على أعتاب مرحلة فاصلة لتقديم أفضل ما لديه من مرشحين من داخل الطاقم السياسي “المؤسساتي،” أي ممن لا يحملون لقب “الليبرالية أو المتشددين.”