أضيف بتاريخ: 18 - 11 - 2018
أضيف بتاريخ: 18 - 11 - 2018
– مركز الدراسات الأمريكية والعربية –
في سياق نتائج الانتخابات التشريعية، النصفية، الأميركية كان مفهوماً اجراء تعديلات بنيوية/شكلية على بعض الوجوه البارزة في الادارة الأميركية، لدواعي متعددة ليس أقلها تعزيز الولاء الشخصي للرئيس عند المسؤولين. بيد أن السرعة التي باشر بها بأقالة/استقالة وزير العدل، ومن ثم انتعاش التكهنات الخاصة بتغيير وجوه مسؤولين آخرين تصدرت الاهتمامات الإعلامية والسياسية على السواء.
من المسلم به، لدى الحزبين، أن صيغة تقاسم السلطة استعادت وهجها ومكنت الطرفين من الاحتفال بنشوة الانتصار، والاستعداد الثنائي الحثيث لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويرجح أنه الدافع الأهم وراء عزم الرئيس ترامب عزل واستبدال بعض كبار رجالات المؤسسة في حكومته، وزير العدل، وفي المقبل القريب وزير التجارة ووزيرة الأمن الداخلي ومدير مكتب موظفي البيت الأبيض ومن ثم وزير الدفاع كما يرجح.
ما يعزز تلك الفرضية هو جملة توجهات “تراجعية” اتخذها الرئيس ترامب الذي لا يلجأ للحلول التفاوضية كخيار أول، بل نظراً لقراءته متغيرات الخارطة السياسية المتجددة ورغبته الجامحة في تجديد ترشيحه لولاية رئاسية ثانية، مما يستدعي تطويع بعض مفردات الخطاب السياسي المتشدد للتقرب من شرائح اجتماعية لم ينصفها من قبل.
ربما من المبكر اصدار حكم في الوقت الراهن على صحة توجهات رئيس متقلب الاهواء وسريع التنصل من مواقف وتصريحات يصدرها تباعاً، بيد أن “تليين” موقفه حول مسألة اهتمام داخلي جديرة بالتوقف عندها، ومثيلاتها لاحقا؛ الا وهي نيته دعم السلطة القضائية في التحرر من قيود احكام تعسفية بالسجن رسمت معالمها وفرضت التقيد بها السلطة التشريعية بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، تحت ذريعة التشدد في مواجهة الجرائم، اسفرت عن تكديس هائل لنزلاء السجون في عموم الولايات المتحدة، ضحيتها الأولى كانت الأقليات لا سيما من السود وذوي الأصول اللاتينية بنسب تفوق تعدادهم النسبي في المجتمع.
ربما لن تسفر مساعي “تعديل” احكام القضاء عن نتائج يرغبها المتضررون أساساً من نتائجه الكارثية، لكنها تشكل توجهاً يطمئن شرائح جديدة من المجتمع لم يعهد لها الاصطفاف لدعم الحزب الجمهوري – على غرار توجهات الرئيس الأسبق رونالد ريغان “باختراعه” مصطلح “ديموقراطيون لدعم ريغان.”
اللافت في الأمر ان الرئيس ترامب استضاف ممثلين عن الحزب الجمهوري في مجلسي الكونغرس ظاهرها الاحتفال بنتائج الانتخابات، يوم الثلاثاء 14 تشرين الثاني/نوفمبر، مخاطبهم بالقول “.. اذهبوا وابحثوا عن صيغة تحقق ذلك، انا بانتظار قراركم للتوقيع” عليه ليصبح قراراً ساري المفعول. وبهذا، فرض الرئيس ترامب تلك المسألة على السجال العام مبكراً لاحراج جناح المتشددين في الحزب الجمهوري، من ناحية، والتأثير على قواعد الناخبين في الجولة المقبلة بصرف النظر عن مدى نجاح التوجه في مجلس الشيوخ.
علاوة على هذا المؤشر اللافت، يتردد بأن الرئيس ترامب ينظر في تبني حزمة جديدة من تخفيض معدلات الضرائب عن كاهل الشريحة الوسطى هذه المرة، بعدما حقق برنامج حزبه في تخفيضها للشرائح المترفة وكبريات الشركات. حتى لو سلمنا جدلاً ان تلك لا تعدو كونها مناورة لن تفضي إلى نتائج ملموسة وعاجلة، لكنها ستكسبه قبولاً شعبياً يتجاوز شريحة حزبه الضيقة، نحو 37% من عموم الشعب الأميركي.
صراعات داخلية وتعديلات
تميزت ولاية الرئيس ترامب بمناخات عاصفة منذ الأيام الأولى، واستشرت التسريبات من قوى متعددة للنيل من أهليته وقدرته على الاستمرار في تنفيذ مهامه الرئاسية، فضلا عن مسلسل فضائح اخلاقية ومسلكية لم تلبث ان تتلاشى أمام فضائح اكبر واشد ايلاما، لكنه ثابت في مكانه.
استغل الرئيس ترامب فترة الاعداد للإنتخابات النصفية/التشريعية لتحشيد قواعده الانتخابية التصويت بكثافة باعتبار المسألة “استفتاء” على شخصه. ويسجل له من مجموع 11 مرشحاً لمجلس الشيوخ فاز 9 منهم بالمنصب “نتيجة” اصطفافه جانبهم ومشاركتهم منصة الخطابات.
يحرص الرئيس ترامب على “تسريب” ما يريده علناً من توجهات وسياسات، ومن بينها معدل ارتياحه ورضاه “لولاء” اعضاء ادارته. وما “إقالته” لوزير العدل بالتزامن مع اعلان نتائج الانتخابات إلا أحد الدلائل على تشبثه بمركز القرار، وما يعتقده من تغييرات ضرورية في الفترة الزمنية الفاصلة بين نهاية الانتخابات واستئناف العمل بعد عطلة اعياد الميلاد والسنة الجديدة.
لا ينبغي تحميل مسألة تغيير اعضاء الإدارة تفسيرات تفوق طاقتها، إذ اضحت عرفاً لنزيل البيت الأبيض الذي يخسر حزبه عادة بعض مقاعد في مجلسي الكونغرس، بعضها قاسية تعيد تشكيل التوازنات السياسية. فالرئيس الأسبق جورج بوش الإبن تسبب في خسارة كبيرة لسيطرة حزبه على مجلسي الكونغرس، 2006؛ وكذلك فعل الرئيس السابق اوباما.
وايدت دراسة صدرت حديثة عن معهد بروكينغنز اجراءات التعديل في مناصب وزارية، وهي في عهد الرئيس ترامب “.. تتسق مع طبيعة التعديلات التي شهدتها كافة الإدارات الأميركية منذ عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان.”
ربما الفارق المميز في ولاية الرئيس ترامب يكمن في ارتفاع معدل التغييرات في السنة الأولى من ولايته، 35% وفق الإحصائيات الرصينة، بيد أن النسبة تتقلص بعض الشيء في ولايته الثانية لمعدلات غير مقلقة مقارنة مع أسلافه السابقين، بخلاف الخطاب الإعلامي للخصوم.
وكرر الرئيس ترامب اسلوب أسلافه في التعيين لمراكز رسمية استناداً إلى “ارشادات ورغبات” مراكز القوى في حزبه السياسي، كما هو الأمر عند منافسه الحزب الديموقراطي، التي لا تأخذ عامل الكفاءة والفعالية على رأس سلم الأولويات مما ينعكس سلباً على اداء الإدارة بشكل عام.
في هذا السياق ينبغي النظر لحقيقة الدوافع التي أدت بالرئيس ترامب اقصاء وزير العدل جيف سشينز، ليس لتراكم الانتقادات ضده نتيجة تحقيقات روبرت موللر فحسب، بل لقراءته الواقعية بانتقال مركز الثقل في مجلس النواب ليد منافسية ومناوئيه في الحزب الديموقراطي واعلاناتهم المتكررة بفتح جملة ملفات وتحقيقات ضد شخص الرئيس، مما حدا به اتخاذ خطوة استباقية بفرض “مؤيد مضمون الولاء” على رأس وزارة العدل، ولو مؤقتاً، الذي سيلعب دوراً محورياً في الاستجابة لاستمرار التحقيقات من عدمها أو إطالة أمدها وتفريغها من زخمها على أقل تعديل.
فرض قرار الرئيس ترامب جولة جديدة من الجدل القضائي والسياسي حول صلاحيته بتعيين عنصر في منصب وزير العدل، ولو مؤقتاً، لكنه سيخضع لموافقة مجلس الشيوخ على التعيينات الرئاسية ومؤشر على مدى نفوذ ترامب بين اقرانه في قيادات الحزب في مجلس الشيوخ.
اشتدت في الأيام الاخيرة التكهنات حول نفوذ زوجة الرئيس ترامب، ميلانيا، في اقالة نائبة مستشار الأمن القومي، ميرا ريكاردل. بيد أن حقيقة الأمر والتوازنات المتجددة داخل مجلس الأمن القومي، تحت رئاسة جون بولتون، تشير إلى الدور المحوري الذي يمارسة الأخير في “التخلص” من بعض الوجوه والشخصيات النافذة في الإدارة، أبرزها وزير الدفاع جيمس ماتيس.
يشار الى ان السيدة ريكارديل، الآتية من حملة الرئيس ترامب الانتخابية، وقفت صداً أمام ترشيحات ناصرها وزير الدجفاع جيمس ماتيس، بزعمها أن ولاءها يميل نحو الحزب الديموقراطي وليس للرئيس ترامب. كما عارض ماتيس ترشيحها سابقاً لمنصب رفيع في وزارة الدفاع، واتهمها بتقويض آلية الاتصالات والتواصل بين وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي.
الاحتقانات الشخصية بين مختلف مراكز القوى في الإدارة تشتد وطأتها بعد الانتخابات النصفية، وتصويب الرئيس ترامب بعض سهام هجومه على وزيرة الأمن الداخلي، كيرستن نيلسون، واتهامها باتخاذ موقف لا يتسم بالتشدد الكافي في مواجهة مسألة “قافلة المهاجرين” من أميركا الوسطى طلباً للجوء السياسي في الولايات المتحدة.
نيلسون كانت محور صدام احتل مساحة تغطية إعلامية في الأسابيع القريبة بين مدير مكتب موظفي البيت الأبيض، جيم كيلي، ومستشار الأمن القومي جون بولتون الذي اتهم الأول بإقامة علاقة عاطفية مع نيلسون عندما كانت نائبة له في وزارة الأمن الداخلي قبل انتقاله للبيت الأبيض. وتم تسوية الأمر، وفق التقارير الإعلامية، باصطفاف الرئيس ترامب إلى جانب بولتون، مما عزز التكهنات عن قرب مغادرة كل من كيلي ونيلسون، واستبدالهما بشخصيات أشد تشدداً تتواءم مع توجهات جون بولتون.
السؤال المحوري في هذا الصدد يتمحور حول ما ستؤول إليه توجهات السياسة الخارجية الأميركية بعد تثبيت أقدام متطرفي اليمين السياسي. مما لا شك فيه أن رغبة ذاك التيار وداعميه في داخل منظومة المؤسسة السياسية والاستخباراتية والدفاعية باستهداف إيران قد نجح إلى حد ملموس، بيد أن سياسة تجديد العقوبات لم تفرز عن سيادة الموقف الأميركي عالمياً كما كان يرتجى.
وعليه، يمكننا القول أن مفاصل السياسات الخارجية الأميركية ستنحو منحىً موازياً لسياسة تسعير العداء باتجاه روسيا وايران وحلفائهما في الأقليم، في المدى المنظور، واشعال حروب “موضعية” لن تتطور لمواجهات مباشرة، دون الالتفات لتداعيات تلك السياسات على مكانة واشنطن العالمية في المديين القصير والمتوسط.