أضيف بتاريخ: 31 - 08 - 2018
أضيف بتاريخ: 31 - 08 - 2018
– فيصل محمد جلول –
تبدو سوريا واثقة من دعم حلفائها بمواقف ثابتة وتصميم راسخ. ولعلّ حركتهم الدبلوماسية المكثفة هذه الأيام هي دليل إضافي على عزمهم خوض آخر المعارك السورية في ظروف ملائمة من بينها موقف تركي جديد يضمر في الحد الأدنى، الخروج من الحرب السورية بلا جارٍ كرديٍ مستقل أو قادر على تهديد الأمن والإستقرار في ما وراء الحدود.
كان يحلو للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران أن يسخَرَ من الإتفاقات الموقّعة، معتبراً أنها جديرة بالنقض من دون استثناء. في الفترة نفسها، كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، يؤكّد للمحيطين به، أن الخطوط الحمراء يمكن تحريكها في الظرف المُلائم وبالتالي تغيير لونها عند الضرورة. والشائع عموماً أن كل معاهدة قابلة للإلغاء أو التعديل وبالتالي لا شيء يعصم هذا النوع من التفاهمات التي تنشأ عن ميزان قوى في ظرف معين، ولا شيء يضمن استمرارها غير ميزان القوى الذي أتى بها.
الأمثلة على ما سبق كثيرة. أبرزها تلك المعاهدة التي وقّعتها 63 دولة في العام 1928 وتقضي بأن تمتنعَ الدول الموقّعة عن حل مشاكل الحدود والتعايش في ما بينها بواسطة الحروب، وأن تلجأ دائماً إلى التفاوض للتوصّل إلى حلول سلمية للمشكلة المطروحة. الملفت هو اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد أقل من عقد ونصف العقد، فأطاحت بمعظم الحدود في العالم، وخلقت حدوداً جديدة . ولن نعدم أمثلة أخرى في كل القارات.
إذا كانت المعاهدات والإتفاقات معرّضة للخرق، فإن القليل منها يتم التنكّر له بُعيد توقيعه. أما التفاهمات والاتفاقات الشفهية، فأنها معرّضة للنقض أحيانا بسرعة قياسية كما هي حال الإتفاق المفترض بين الرئيسين بوتين وترامب في قمة هلسنكي الأخيرة، إذ قضى بأن تضمن موسكو أمن إسرائيل والأردن على أن تسترجع الحكومة السورية أراضيها الجنوبية في درعا والقنيطرة وريفها وتنسحب الولايات المتحدة الأميركية من شمال شرق سوريا.
لم يتأكد هذا الاتفاق ـ المقايضة من الطرفين، مع أن ما وقع في الجنوب السوري خلال الصيف المنصرم قد تم في هذا الاتجاه الذي كان ينبغي أن يتأكّد خلال الفترة التمهيدية لاسترجاع إدلب وريفها. إلا أن التصريحات المُتزامنة بين باريس ولندن وواشنطن حول “زعم” الرئيس بشّار الأسد استخدام السلاح الكيماوي في إدلب، وأن الدول الثلاث ستردّ كما فعلت في أبريل الماضي في الغوطة. أدّت هذه التصريحات إلى خلط الأوراق من دون أن تضع حداً للاستعدادات السورية إزاء إدلب ، الأمر الذي يطرح سؤالاً كبيراً حول مناورة جديدة تنظّمها واشنطن في شمال شرق سوريا، يفسّرها البعض بمشروع قديم ــ جديد لفرض حظر جوي ومنطقة آمنة لحماية الكرد، ويفسّرها البعض الآخر باستعادة المشروع الأميركي القديم بإقامة إمارة سلفية، ويرى بعض ثالث أن الأمر يتعلّق بالضغط على روسيا لوضع مُقايضة جديدة موضع التطبيق تنطوي على سحب قوات الحرس الثوري وحزب الله من سوريا مقابل انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق البلاد.
نستدرك هنا للإشارة إلى الموقف الأميركي حصراً ذلك أن فرنسا وبريطانيا لن تجرؤ على قصف سوريا منفردة وبالتالي فإن الموقف الأميركي هو الذي يحدّد مسار التطوّرات في إدلب وفي أقصى الشمال السوري.
يُنسَبُ إلى الإدارة الأميركية قولها للروس الذين طلبوا تفسيرات حول مزاعم الكيماوي الجديدة، أن التصريح صدر عن قصر الإليزيه وأن البيت الأبيض لا عِلم له بذلك، من دون ان تنفي نيّتها التدخّل عسكرياً بذريعة الكيماوي البلهاء، فهل يتكرّر سيناريو الغوطة أم أن الظروف اختلفت وأن المناورة الراهنة لا تعدو كونها وسيلة للضغط من أجل دور ما في الأزمة السورية ينعكس على مستقبل البلاد ويتيح نفوذاً فيها من دون كلفة باهظة ؟!
لا يمكننا أن ننظر اليوم إلى الموقف الأميركي في شمال الشرق السوري بمعزل عن الأدوار التي لعبتها الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً في الحرب السورية. يمكن ترتيب تلك الأدوار تحت عنوان عريض هو االعمل على إسقاط الرئيس بشّار الأسد من دون إرسال قوات على الأرض والإقتصار على دعم المنظمات السورية المسلحة جواً، وتزويدها بالتدريب والأسلحة وخبرات القيادة والتغطية المالية وسائر عناصر الدعم اللوجستي وإحاطتها بكوادر وقوات بشرية محدودة. وقد أُنشِئت غرفٌ عسكرية لهذا الغرض بقيادة أميركيين أو غربيين إضافة إلى أُمَراء ومشايخ من الخليج والأُردن ودولٌ عربية أخرى.
لقد صار معروفاً حجم الفشل الذي أصاب هذه المحاولات خلال السنوات السابقة، وبخاصة قبل التدخّل الروسي، فما بالكم بعد هذا التدخّل الذي حصّن الدولة السورية بوسائل قوّة جديدة على كل صعيد. إن الإنطلاق من هذا الفشل لتغيير المعادلة السورية الجديدة، يبدو أمراً صعب المنال ولو كان متاحاً لما انتظرت واشنطن حتى يسيطر الجيش السوري على الغوطة والجنوب ويصبح أقوى وأكثر قدرة على المناورة.
من جهة ثانية عبّر ترامب ِمراراً عن نيّة بلاده الانسحاب من سوريا في “أقرب فرصة” لأن الشعب الأميركي يرفض إرسال جنودٍ إلى الخارج، ويريد إقفال البؤر التي قد يُستَدرجُ إليها وهذه الرغبة مستمدة من فشل حربي العراق وأفغانستان ومن لا جدوى الإنفاق على حروب جديدة واعطاء الأولوية للإنفاق على البنية التحتية وصناديق البطالة والمؤسّسات الصحية والخدماتية الأخرى. والظنُ عندي أن يكون الرئيس الأميركي بحاجة في هذه الأوقات إلى سحب جنوده من سوريا لدعم موقفه الصعب في إنتخابات نوفمبر المقبل.
يبدو الرئيس الأميركي هذه الأيام غريب الأطوار أكثر من أي وقت مضى، فقد فرض عقوبات أو يهدّد بفرضها على أبرز دول العالم وآخرها الهند، ويهدّد من يقترع لخصومه بأنه سيزداد فقراً إذا ما خسر الجمهوريون الانتخابات، ويعاني من صعوبات جمّة في إدارته آخرها طرد محاميه الشخصي، كل ذلك يوحي وكأن البيت الأبيض بلا إدارة سوّية تتيح لرجل دولة عظمى أن يخوض أو يشارك في حرب خارجية ناجحة. أما الذين يتوقّعون أن تساعده ضربة عسكرية ما في تحويل الأنظار من الداخل إلى الخارج فهم يهملون فرضية أن مثل هذه الضربة يجب أن تندرج ضمن استراتيجية جديدة في الحرب السورية حتى تكون فعالة، وأن ما يضمره ترامب لا يتعدّى التهديد الغامض الذي يوحي بأنه يمكن أن يُقدم على خطوات غير محسوبة ما يستدعي توخّي الحذر إزاء أفعاله المفاجئة.
بالمقابل تبدو سوريا واثقة من دعم حلفائها بمواقف ثابتة وتصميم راسخ. ولعلّ حركتهم الدبلوماسية المكثفة هذه الأيام هي دليل إضافي على عزمهم خوض آخر المعارك السورية في ظروف ملائمة من بينها موقف تركي جديد يضمر في الحد الأدنى، الخروج من الحرب السورية بلا جارٍ كرديٍ مستقل أو قادر على تهديد الأمن والإستقرار في ما وراء الحدود… في هذه الحال من الصعب على واشنطن والدول الغربية الرهان على تراجع سوري في معركة إدلب ما يعني أن مناورة الكيماوي الجديدة في أقصى الشمال السوري مصيرها الفشل.