أضيف بتاريخ: 14 - 08 - 2018
أضيف بتاريخ: 14 - 08 - 2018
ليس علينا عندما نعالج قضايا وطنية مصيرية في سياق الأزمات المركبة خاصة، ليس علينا أن نرهن أوطاننا وشعوبنا للدوائر الايديولوجية المغلقة والحلقات السكتارية المفرغة والتوجيه الخارجي لرعاة دوليين ماليين بلا هم ولا رحمة. وليس علينا أن نستسلم لنزوات استعراضية لبعض الأفكار الوجودية النمطية لإثارة الإعجاب لدى البعض وإثبات النسب العقائدي السياسي لدى البعض الآخر. ولذلك يتوجب علينا أن نعاود التنبيه إلى خطورة التحشيد الإنتخابي-الإيديولوجي الأعمى دون وعي عميق والتحذير من الخوض العشوائي في موضوع الحريات والمساواة دون رؤية فكرية ثابتة ودون تنزيل سياسي مناسب ودون تفكير في الأفق الإستراتيجي الذي ستلتءم أو تصطدم فيه الدولة والمجتمع والأفراد زيادة على الآفاق الإقليمية والدولية المحفوفة بصراع إدارة الفوضى وإعادة تشغيلها في كل مكان. والحال، وبكل تكثيف، اننا نعيش تونسيا قلبا للآية تشريعيا وسياسيا حتى يختزل كل الأمر في الخوض الشكلاني في الشكليات ومنع تنفيذ النموذج السيادي الذي يبدع تحقيق الأهداف الوطنية والاقتصادية والاجتماعية في المجالات العامة والشخصية كلها.
تكمن المغالطة الكبرى في ادعاء أن المسار الانتفاضي المنقلب عليه أثناء وما بعد سنة 2011 كان حصرا واولويا من أجل الحريات كما أراد ويريد التيار النيوليبرالي الموجه لتونس بالاملاءات والمهيمن عليها ثقافيا بواسطة هيمنته على نخب الاستعمار السياسية والفكرية. والحق ان أول واعمق ما قامت عليه الحركة الانتفاضية وتاريخها، كان ضد التبعية الاقتصادية والظلم الاجتماعي تحت ضربات تسلطية حديدية تمنع الحقوق وتعدم الحريات ولا تعترف بكل مستويات المساواة بسبب النظام الأمني والاقتصادي على وجه الخصوص ونظام الحكم بوجه عام.
هذا ويكمن الوهم الكبير في ادعاء ان دستور تونس الجديد المتشكل من خليط هجين من عدة مرجعيات مركبة على بعضها البعض، قد حسم الجدل في عدة قضايا ومن أهمها قضايا السيادة والاستقلال والهوية والعدالة، في حين ان الواقع يثبت في كل مرة انه ما من قضية خلافية تذكر إلا ويصبح اختراق وتجاوز الدستور أمرا واقعا ومن الجهتين ان كانتا حكما ومعارضة أو كانتا “النهضة” و”النداء”.
نحن على قناعة تامة ان أمرا حساسا مثل تقرير الحريات والمساواة لا يحسم إلا في الوعي وضمن الرؤية الوطنية الإستراتيجية الشاملة لرسم مسار ومعالم استكمال التحرر وخطط الانعتاق الثوري والبناء المستقل والسيادي الذي يضع نصب عينيه كل المجتمع وليس بعض فئات المجتمع ومستقبل أجيال تونس وليس بعضهم وحسب توازن استراتيجي وطني ومجتمعي متكامل وليس حسب مزاج أحدنا. كما اننا على قناعة واثقة ان الاسلم والاحكم والاقوم والاعدل هو حسم الخلافات على قاعدة الاختيار الحر والتدريجي والمنصف وليس بالتدافع وعلى الهوى بالهاب سوق الأهواء المستعرة بمقتضى مقولات غراءزية ومزاجية وسوقية وموغلة في الفردانية والعدوانية مثل مقولة الشبيه المستوحشة ومقولة الغريب المتوحشة.
في الواقع، نحن لسنا حضارة خاصة مقتطعة من كل جذورها ومن كل المتغيرات والمالات ونحن لسنا قطعة من أمة تذهب إلى مزيد التقطع وترنو إلى مجتمع معلق على حبال أفراده كل يقطع منه ما يريد متى يريد. وفي الحقيقة، نحن لا نطمح أن نكون حديقة خلفية للاتحاد الأوروبي ولا مجرد ملهى ليلي لامارات ومملكات ومشيخات الخليج. كما ولا نظن أن غالبية مجتمعنا عازمة بحق ووعي على تحويل نفسها إلى مجتمع شذاذ آفاق لا يجمعها إلا عقد تبعية متعدد التبعيات أو عقد إرهاب وفساد متعدد المشغلين يحطم أي امكانية لنهوض مشروع وحدة المصير والاندماج والتعاون والشراكة الإستراتيجية لا الالحاق القسري المعولم لبعضنا والشتات العالمي لمن سوف يتبقى منا في لعبة التفكيك الناعم والصلب. وعلى ذلك نرى أنه علينا مواجهة أي مشروع فءوي وقطري محلي تابع بصيغته المعولمة الأمنية والعسكرية والاقتصادية وتجريبي مختبري بصيغته العولمية الثقافية والقانونية، وهنا الفرق الفارق بين من لديه مشروعا وطنيا جامعا يمتد إلى أبعاده العروبية والإسلامية والعالمية الانسانية التحررية والثورية ومن لا ينظر الا من ثقب نفسه الفردية ومن يشبهها.
ان كل ما يحدث في تونس هذه الأيام من تخبط وتمزق وصراع للاحقاد، واذا لم يتم التصحيح، سيجعل مع مرور الوقت من المجاميع المحلية اليسارية الليبرالية الملونة على مستوى الهوة الهوياتية الوطنية في السياسة والمجتمع أشبه بما يسمى اليمين في أميركا الجنوبية دون أن تكون بالضرورة مرتبطة بالاجندات الأجنبية الاستخباراتية وسيجعل من مجاميع البورقيبية الدستورية أشبه ما يكون بمجاميع الاقليات في أوروبا وأميركا دون أن تكون بالضرورة دون غالبيات انتخابوية وسيجعل من مجاميع الاسلامويين شعوبا على طريقة توزع الإخوان المتاسلمين في تركيا والأردن وغيرهما. وسيلتقي الجميع ضد نواة التيار الوطني المقاوم الذي يرفض فصل المجتمع عن نفسه وعن تطوره التفاعلي الذاتي الحر والمستقل ويرفض فصل المغرب العربي عن محيطه ويرفض التفريط في تونس لفلسفة مجتمع وسياسة وفلسفة قانون واقتصاد وأمن نيوليبرالية تهدف إلى اللامساواة والانتداب الناعم وادامة الوصاية والاستعمار والقضاء على الدولة وتعويضها بتوحش سوق رأس المال المعولم والتابع. ويلتقي الجميع من حيث يريدون أو لا يريدون ضد وطنهم قبولا أو صمتا في كل قضايا السيادة الوطنية وعلى رأسها النظام الاقتصادي والعقيدة الأمنية والتطبيع مع العدو والعدالة التوزيعية الإنمائية وبالتالي كل مستويات الحقوق والحريات والمساواة.
صلاح الداودي