أضيف بتاريخ: 22 - 08 - 2017
أضيف بتاريخ: 22 - 08 - 2017
“قادمون يا تلعفر”. تلعفر العراقية أو تل الغزلان، عندها تتقاطع كل القوميات والأعراق والمذاهب. بل وحتى المؤامرات الاقليمية والدولية. تلعفر اليوم محط أنظار العراقيين على اختلاف أهوائهم بل ومحط أنظار العالم. فالمدينة التي تقع في المخلب العثماني الذي أثخن في جسد العراق مطولا كانت ولفترة طويلة الشريان الذي يغذي دولة الخرافة بالعدد من اوزبك وانغوش واتراك…الخ. ومن ضباط وعملاء استخبارات تركية ومتعددة الجنسيات. وهي من بين ممرات العديد من المقاتلين من الرقة السورية وإليها.
كانت أيضا نقطة انطلاق أساسية للاستيلاء على الموصل وتوغل داعش الارهابي في محافظة نينوى. لم تكن التركيبة الديمغرافية للمدينة عاملا مساعدا في ظل المتغيرات الاقليمية والدولية. فالمدينة ذات فسيفساء من تركمان سنة وشيعة ومن كرد وعرب. مكن هذا التنوع العرقي والطائفي العصابات الارهابية بعناوينها المختلفة من ضرب نسيجها الاجتماعي واللعب على متناقضات الهويات الفرعية، لإحداث صراعات وزرع العداوات واثارة التناحرات بين العشائر والعوائل عبر خطوات منظمة لتدمير جسور الثقة وبناء الجدران العازلة بين أبناء المدينة الواحدة. مستفيدة من الموقع الجغرافي للمدينة النائية عن المركز والتي تقع عند تقاطع المصالح والمطامع الاقليمية.
كان لأهميتها الجغرافية والتاريخية والجغراسياسية ووقوعها على طريق سوريا والجمهورية الاسلامية في إيران وآسيا الصغرى/تركيا تأثير كبير على ما وقع ويقع. تبعد المدينة عن الحدود السورية والتركية نحو 60 كيلومتر و هي نفس المسافة التي تفصلها عن الموصل. ولذلك فمعركة تلعفر رغم انها في جانبها الميداني ليست من الصعوبة بمكان كبير، فان اهميتها تكمن في بعدها السياسي ورمزيتها ومشكلتها تكمن في وجود بعض الآلاف رهينة عند داعش.
للمعركة بعد استراتيجي مهم كما هو للعراق بأكمله ولسوريا. و بالمقابل لتركيا وكردستان العراق وبقية القوى الدولية وعلى رأسها أميركا. اعلان المعركة الذي تأخر بسبب هذه الصعوبات هو نفسه إعلان نصر، اذ ان النصر الميداني العسكري والذي لن يتأخر الاعلان عنه ليس سوى نتيجة حتمية. فالضغوط التي مورست على الحكومة العراقية، والتي وصلت حتى التهديد القادم من أنقرة باجتياح الأراضي العراقية وضم مدينة تلعفر للجملوكية التركية وكذلك تهديد البارزاني والتحذير شديد اللهجة من القوات الدولية المتربصة بالحشد الشعبي والتي لم تتوانى عن قصفه مباشرة في مناسبات عدة وتقديم الاتقاذ لداعش، كان الهدف منها ضمان سلامة عدد غير يسير من قيادات داعش الأجنبية وتهريبهم إلى دول الجوار وحتى الحصول على ضمانات بعدم ملاحقة الباقين منهم داخل العراق.
كان بإمكان الحشد الشعبي الاستمرار بمعارك تلعفر بعد تحريره المطار في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، ولكن التدخلات الاقليمية والخارجية وحتى الداخلية منها حالت دون ذلك و مكنت العصابات الارهابية من اللقاء محاضرة في قضاء تلعفر. وان كانت معركة تحرير الموصل من قبضة تنظيم داعش الارهابي واحدة من أهم المعارك على مر التاريخ، فان معركة تلعفر ستكون أسهل بكثير، نظرا العدد الأقل من المدنيين الذين وقع تهجيرهم طيلة السنوات الأخيرة تحت عناوين شتى. وتسارعت الوتيرة منذ استيلاء داعش على القضاء سنة 2014، لينخفض عدد سكانها إلى أقل من 10 آلاف بعد أن كانت تعد ما يناهز 300 ألف نسمة.
هذا ولن يكون بامكان العصابات الارهابية الاستفادة من البنية المعمارية التي كانت تميز مدينة الموصل، بضيق أزقتها وأحيائها المتلاصقة خاصة في الجانب الأيمن من المدينة المحررة. ولن يكون ثمة تشابه بين المعركتين باستنثاء الأساليب والوسائل لدى داعش، باستخدام العجلات المفخخة والعبوات والانغماسيين ورشق المرتر وربما الطائرات المسيرة، بعد أن قامت القوة الجوية العراقية بقصف ثكنات ومراكز تجمعات العصابات الارهابية، قبل اعلان الهجوم البري، للتمهيد الناري ولتفكيك معنويات وقدرات داعش المنهارة أصلا هناك.
تحرير قضاء تلعفر من العصابات الارهابية وعناصر الكا جي تي وعودة المهجرين إلى ديارهم وقراهم واراضيهم، يمثل في الوقت نفسه قطع الشريان الأخير لدويلة الخرافة في العراق، وايقاف النزيف الذي أوهن الجسد العراقي طويلا ولجم المطامع الاقليمية المحدقة بالعراق. ليكون وسام فخر جديد يزين صدر العراق بشعبه وحشده وقواته الأمنية. زمن ثم تجاوز الطعنات في الظهر التي كانت لتنفذ وبشكل أعمق إلى جسد الأمة العربية والاسلامية.
إن مسيرة الشهداء التي حملت أبناء العراق من العمارة والكوت والبصرة وميسان إلى الموصل وتلعفر وسهل نينوى، لم تساهم في تحرير العراق من نير الارهاب المدمر للاوطان والمهجر للشعوب فقط، وانما أيضا أسست لمعركة التحرير الكبرى التي تتجاوز تحرير الجغرافيا نحو تحرير الشعوب وايقاظ الهمم وشحذ العزائم. وكما كانت بلاد الرافدين ومنذ فجر الانسانية صانعة للملاحم وكاتبة للتاريخ هي ذي من جديد تكتب التاريخ وترسم خطوات نحو المستقبل وتفرض شريعة جديدة للمنطقة كما سبق وفعل حمورابي.
بلحسن اليحياوي