أضيف بتاريخ: 15 - 09 - 2016
أضيف بتاريخ: 15 - 09 - 2016
لا يمكن لأي كان أن ينكر الدور التركي الفاضح والفاعل في كل ما حدث ويحدث في المشرق العربي بل وحتى في المغرب العربي منذ وقبل ما سمي بالربيع العربي وخاصة يدها الطولى في تغذية كيان الإرهاب المعولم المسمى داعش. الدور التركي في المنطقة ابتدأ منذ غزو العراق سنة 2003 أي منذ أن بدأ التخطيط لنشر ” الديمقراطية ” على الطريقة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي والمعايير الجديدة التي وضعتها أمريكا في رؤيتها السياسية لمواصفات الدول الجديدة في القرن 21 القائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان والتدفق الحر للسلع الواردة في مشروع صناعة وفن حكم الدول في القرن الواحد والعشرين.
ستراتكرافت 21، المنشور على موقع وزارة الخارجية الأمريكية، هو ما وقعت ترجمته لاحقا وما عرف باسم الربيع العربي والذي أعلن انتهاء صلاحية الدكتاتوريات العربية سياسيا وبيولوجيا بعد وصول هذه النظم إلى نهايتها ولم تعد تقدم لأمريكا وأوروبا أي خدمات بل أصبحت عبئا عليها وهو ما عبر عنه معمر القذافي في آخر قمة عربية عقدت في طرابلس في 2010 . هذه النظم العربية أصبحت عبئا لدرجة أن أمريكا والغرب يريدان التخلص منها بأي ثمن وهذه أقصى درجات الوفاء للحسابات الجيوستراتيجية المستجدة للولايات المتحدة الأمريكية والتي دفعتها سابقا إلى تحطيم نظم من أشد حلفائها وأخلص عملائها في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. بالإضافة إلى كل ذلك كانت هناك حاجة ملحة لمواجهة النمو الديمغرافي الإسلامي المتزايد في الغرب عبر تأسيس أنظمة عربية بصبغة إسلامية معتدلة تساعد في عملية هجرة عكسية للرموز والكوادر الإسلامية الناشطة من الغرب نحو العالم الاسلامي. وبما أن الجغرافيا الطبيعية للعالم الإسلامي متصلة بأوروبا من ناحية المغرب الإسلامي أكثر منها في آسيا وقع ترحيل الربيع العربي من العراق 2003 إلى تونس 2010، طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة الوضع العراقي المربك لكل الحسابات السابقة والذي مثل عائقا أساسيا أمام مشروع الربيع العربي في نسخته ” العراق 2003″. ووصلت هذه المعوقات الى ذروتها سنة 2006 مع فشل الحملة الأمريكية لضبط العالم الاسلامي وبروز مآزق الاحتلال في أفغانستان والعراق. والأهم من كل ذلك فشل عدوان العدو الصهيوني على جنوب لبنان وعجزه عن استرداد كرامته التي أريقت في حرب التحرير سنة 2000 بل تكبد خسائر طائلة طالت قدراته العسكرية وواجهته السياسية في مقابل تعاظم دور المقاومة كمحدد صعب للمعادلة في الشرق العربي.
والحقيقة أن الاتصالات الأمريكية والغربية عموما بالتيارات الإسلامية قديمة قدم مشروع الشرق الأوسط الكبير ولكنها تكثفت في تسعينيات القرن الماضي بعد الحرب على العراق أو ما سمي بحرب الخليج الثانية 1991 . وتطورت هذه الاتصالات حتى وصلت إلى أشواط متقدمة سنة 1997 برعاية مركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي الذي عقد بإشراف مديره مستشار وزارة الخارجية الأمريكية جون اسبوزيتو ” حلقة الأصالة والتقدم ” وشاركت فيها شخصيات وازنة في الحركات الإسلامية كراشد الغنوشي ويوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري وعشرات غيرهم. ولكن أحداث سبتمبر 2001 أجلت هذا المشروع بضع سنوات وعاد ليطفو على السطح بعد سنة 2006 وبعد أن أوصلت الأبحاث والدراسات الأمركية إلى أن الإسلاميين هم أكثر الجماعات السياسية والاجتماعية تنظيما ونشاطا وتأثيرا في بلدانها ولا بد من التحالف معهم واشراكهم ودمجهم في السلطة. ولكن المعضلة الكبرى كانت تتمثل بعدم وثوق الإسلاميين في الوعود الأمريكية ودعم الولايات المتحدة التاريخي للدول والنظم السلطوية في العالم العربي وكان الحل هو التخلي عن هذه النظم بما يجذب الإسلاميين ويمد جسور الثقة والتعاون والتواصل معهم للتوصل إلى نقاط مشتركة وفق معايير وموازين الحداثة والديمقراطية.
وهنا برز الدور التركي وحزب العدالة والتنمية الصاعد إلى الحكم في تركيا حديثا الذي كان وسيطا في اتصالات ومفاوضات أمريكا والاتحاد الأوروبي مع حركة الإخوان المسلمين كاحد أكبر التنظيمات في العالم الاسلامي. ونشطت هذه الاتصالات من خلال المعاهد والمراكز غير الحكومية كمنتدى الحوار الانساني السويسري الذي يحضره ممثلون عن مختلف فروع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين في كافة البلدان العربية. وهذه الاتصالات تتابعت ووصلت لحد وضع برامج تدريبية وأبحاث مشتركة أدت إلى الاتفاق على الخطوط العريضة للتعاون اتخذ في فترة لاحقة وفي احد أبهى تجلياته ” تحالف استراتيحي تونسي- أمريكي ” كما عبر عنه حمادي الجبالي إثر توليه رئاسة الحكومة التونسية في سنة 2011.
فتركيا اذاً، التي ترأس منظمة التعاون الإسلامي بعضوية 55 دولة وترأس الاتحاد العالمي للمنظمات الأهلية الاسلامية الذي يضم 800 جمعية ومنظمة كانت حلقة الوصل الأساسية بين الاسلاميين والغرب وقامت بترتيب عدة لقاءات واتصالات بعيدة عن الأضواء مع الشيخ القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومع راشد الغنوشي الذي يبشر بالدمج بين الاسلام والديمقراطية وهو ما يؤمن به القادة الأتراك الجدد والذين يرغبون بالعودة الى المغرب العربي عبر الايالة التونسية لاستعادة مناطق نفوذ الخلافة العثمانية بالاضافة الى عدة شخصيات مغربية ومصرية من بينهم عبد الاله بنكيران وعصام العريان من مصر وتم تنظيم مجموعة كبرى من اللقاءات مع الامريكيين في الدوحة لعشرات الشخصيات الإسلامية في إطار بناء شبكات إسلامية “معتدلة” وهو ما كشفته وثائق ويكيليكس ولم يسجل أي اعتراض على أصل كل هذه الترتيبات التركية وإنما وقع الطعن في بعض تفاصيلها.
ولذلك كان أحد أهم مميزات السياسة الخارجية التركية في عهد العدالة والتنمية وحتى قبل ذلك بداية من عصمت اينونو مرورا بأوزال وصولا إلى أربكان وأردوغان قائمة على جملة من القواعد العامة تتلخص في مجملها في الخضوع الكامل للغرب والانضمام للأحلاف العسكرية المعادية لجيرانها بل والأسوأ من ذلك استضافة القواعد العسكرية العدوانية على أراضيها على عكس كل هذا الكم من الكذب الفج بشأن السياسات التركية والوهم والتوهم الحاصل في عقول العديدين بشأنها. وفي عملية جرد سريعة لخطوات السلطان العثماني منذ توليه السلطة إلى ليلة 16 تموز يتضح بما لا مزيد عليه حقيقة ونوايا العثمانيين الجدد منذ أن حافظ رجب طيب أردوغان على الوجود التركي في العمليات الأطلسية بالبلقان وأفغانستان بل وتولى قيادة ايساف بأفغانستان في العام 2005 كما قامت حكومته بمنح الناتو حق نشر رادارات الدرع الصاروخي بتركيا بل وطالب بأن يشمل كل الأراضي التركية في تهديد صريح لكل دول الجوار. وفي نوفمبر 2012 باتت تركيا مقر القوات البرية الخاصة بالناتو في مدينة أزمير.
في الرابع من نيسان 2009 تم الإعلان عن اختيار راسموسن الدنماركي كأمين عام للناتو باتفاق كل الدول ما عدا تركيا التي عزت رفضها إلى الرسوم المسيئة التي نشرتها صحف دنماركية للرسول الأكرم -ص- في أكتوبر 2005 وروج في الإعلام أن تركيا طالبت باعتذار رسمي من راسموسن على الرسوم المسيئة، في حقيقة الأمر لم يكن سوى ابتزازا للدنمارك من أجل إغلاق محطة قناة “روج ” الكردية واتهامها بدعم حزب العمال الكردستاني مقابل الموافقة على تعيين راسموسن فقط لا أكثر و لا أقل ودعك من تهليل وتطبيل الإعلام العربي. كما حرص رجب طيب أردوغان على تنمية العلاقات التركية الإسرائيلية وطمأنة إسرائيل كليا على مصالحها حتى على حساب دول الجوار. ففي سنة 2005 وأثناء زياته لاسرائيل دعا لإنشاء منطقة سلام عربية مع إسرائيل وطرح مع كتساف فكرة وساطة تركية من أجل السلام بين العرب وإسرائيل مشيرا إلى خطر إيران. وبذلك قفزت العلاقات التجارية بين تركيا والكيان إلى القمة طوال عامين ولم تتأثر خلال ذلك بجدية العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة بل تحولت تركيا لوسيط بين إسرائيل وسوريا لعقد معاهدة سلام وإلغاء السياسة الممانعة لسوريا ضد اسرائيل. بل وفي ذروة مسرحية توتر العلاقات بين بيريز واردوغان في سنة 2009 إثر إثارة أردوغان في منتدى دافوس لنقطة العمليات العسكرية بغزة نهايات 2008 أثناء جلوسه بجانب شمعون بيريس وبعد عناقه له، نجد أن تركيا تقوم بمناورات نسر الأناضول المشتركة مع الكيان الصهيوني. ومع بدايات الربيع العربي أصبحت تركيا شريكة لاسرائيل في ملفات أهمها إزاحة النظام السوري، فاحتضنت أنقرة المعارضة العميلة وأنشأت ميليشيات للقتال ضد الجيش السوري في خطوة غير مسبوقة أدانتها المعارضة التركية ووصفها أربكان بأنها خيانة صريحة للأمة وندد بها حزب الشعب متسائلا عن طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية المتعارضة في العلن والمتفقة حول ملف خطير كسوريا.
وفي نهاية الأمر لم تتأثر العلاقات التركية الإسرائيلية بتاتا خاصة في مستوى العلاقات التجارية التي وصلت في منتصف 2011 إلى 662 مليون دولار وعلى مستوى التعاون العسكري مهما أبديا من خلافات سياسية.
وبالعودة الى 2003 التي أشرنا إليها بداية بوصفها اللحظة الأولى لإطلاق عملية الربيع العربي في نسخته “العراق 2003″، أعلن كولن باول أن الفاتورة المقدمة لتركيا بعد كم التسهيلات التي قدمتها من توسيع ورفع مستوى القواعد الأمريكية للاستعداد لقدوم القوات الجديدة لغزو العراق والتعاقد مع الشركات التركية لتطوير وتجهيز الموانئ والمطارات وصلت إلى 6 مليارات دولار تشمل ملياري دولار مساعدات عسكرية و 4 مليارات مساعدات اقتصادية ووضع 24 مليار دولار لتركيا كقروض ميسرة الفوائد منها 8.5 فورية وفي مارس 2003 وافق البرلمان التركي – 360 مقعدا لحزب العدالة والتنمية – بقوة لصالح فتح المجال الجوي التركي للولايات المتحدة الأمركية دون قيد أو شرط شاملة تزويد الطائرات بالوقود وإعداد الإمداد وفي أبريل من نفس العام سمحت تركيا بعبور 204 عربة همفي أمريكية لشمال العراق بعد نشرها لقوات تركية على طول الحدود التركية العراقية. وكل هذا غيض من فيض الخدمات التركية إبان الغزو الأمريكي للعراق. وقس على ذلك الخدمات المقدمة منذ 5 سنوات للمغول الجدد في غزوهم لسوريا. وكما كانت تركيا شريكا في إراقة الدم العراقي هي أيضا شريك في إراقة الدم السوري دون الوقوف عند هذا الملف السوري الذي لا يحتاج نقاشا.
بالعودة السريعة إلى الاشارة إلى المعجزة الاقتصادية التركية وإلى السحر الأردوغاني الذي يهيم به العرب عشقا وبالاعتماد على الأرقام الاقتصادية المنشورة على موقع الحكومة التركية فإن المديونية بلغت بنهاية سنة 2013 حوالي 390 مليار دولار بزيادة 50 مليار دولار في عام واحد فقط . الاقتصاد التركي يعاني من مشاكل تزداد حدتها بمرور الوقت ويكفي أن نشير إلى أن النمو الذي حققه هذا الاقتصاد عائد بالأساس إلى سياسات الخصخصة التي دفعت بأردوغان الى بيع كل شيء في تركيا وهو أمر در على تركيا ولفترة محدودة استثمارات خارجية ضخمة رفعت من نسبة النمو. ولكنه أمر بالمقابل سيدفع الاقتصاد التركي ثمنه قريبا هذا بالأصالة إلى سياسة الاقتراض المنفلتة التي اتبعتها حكومة أردوغان حتى ارتفع الدين الخارجي في عهد حكومة العدالة والتنمية من 180 مليار دولار الى 388 مليار دولار وهذا ما يحلو للبعض تسميته المعجزة التركية. بقي أن حجم السخط من سياسات حكومة العدالة والتنمية في الداخل التركي بدءا من الأحزاب القومية مرورا بالحركات الكردية وصولا الى القيادات العسكرية الرافضة لهيمنة أردوغان الذي انتقل من نقطة صفر مشاكل مع الجيران إلى نقطة كل الجيران لديها مشاكل مع تركيا، هو الذي أوصل إلى مرحلة مسرحية الانقلاب التي كانت ناجحة في بداياتها حسب التسويق الاعلامي وفي كل الاجراءات التي اتخذها قادتها وخططوا لها رغم أنه لم يبدُ على مسرحية الانقلاب إطلاقا علامات الانقلابات العسكرية المعروفة. واما ثبات أردوغان المزعوم فلم يكن سوى وهم ترجمه ظهوره المذعور على تطبيق هاتفي. ثم جاءت بعد ذلك الرواية الراجحة إلى حد الآن والمتداولة بكثافة من طلب اللجوء إلى انقلاب الموقف وإنقاذ اردوغان ثم مروره إلى تصفية الحساب.
في النهاية، ما حدث ليلة 16 تموز أنتج تغيرا كبيرا على مستويات عدة، فالسلطان العثماني ينكفئ على الداخل ليخسر بذلك آخر أوراقه في الملف السوري: حلب. وليدخل بدوره في نفق الربيع العربي وتحل عليه لعنة شعار “رحيل الأسد” منهية بذلك حلم استعادة الأمجاد العثمانية المزعومة.
ما حدث ليلة 16 تموز زلزال تنطبق عليه القوانين الجيولوجية له ما بعده وارتداداته قد تكون أخطر منه. وهكذا تتحول تركيا من صانع لعب إلى ساحة لعب.