العلاقات الجزائرية الروسية في ظل العواصف الدولية الجديدة: إستقلالية في الموقف وتحديات في الأفق

أضيف بتاريخ: 25 - 05 - 2022

البروفيسور نسيم بلهول
خبير في الشؤون الأمنية والعسكرية وعضو في شبكة باب المغاربة للدراسات الإستراتيجية

مقدمة:
إن المتمعن في الظروف المحيطة بالإنزال الدبلوماسي الروسي الأخير إلى العاصمة الجزائرية، ستستوقفه حتما معادلة متداخلة ومتسارعة يصعب المراهنة على سلامة مخرجاتها، انخرطت من خلالها الجزائر في بيئة من الإحتقان الدولي وذلك على أعقاب الحرب الروسية الأكرانية، لتتحول من خلالها العاصمة الجزائرية إلى قبلة حرب دبلوماسية باردة بين كل من واشنطن وموسكو.. للمرة الأولى في تاريخ مناوراة القوى الدولية من على رقع شطرنج زئبقية تظهر وكأن معالمها ستؤسس لخطوط التماس خطرة وحرجة بالكاد سيدفع ثمن المجازفة والمخاطرة والإنحياز فيها طرف معين.. ستكون بمثابة بيادق تأخذ شكل قوى إقليمية رئيسية أو نقاط ارتكاز محورية لورشات الإتجاهات والديناميات الإستراتيجية الجديدة للقوى الكبرى..
زيارة ذئب الدبلوماسية الروسية “سيرغي لافاروف”.. نسخة سلافية لكيسنجر في…. وعلى الرغم من كون العديد من التواريخ السابقة كانت تشير، من قريب أو بعيد، إلى اقتراب موعد مثل تلك الزيارة (مثلا: إبان قمة برلين حول النزاع في ليبيا في 19 جانفي 2020م – أو مؤخرا على هامش المكالمة الهاتفية التي جمعت رئيسي الدولتين، وذلك في 18 أفريل من السنة الجارية).
زيارة تأتي في ظل مراجعات أمنية وسياسية أوروبية عميقة. أخذت من خطاب ماكرون الأخير بوصلة له. بل كان بمثابة مسودة لخارطة الطريق الأوروبية الجديدة، خاصة ما يتعلق منه وإعادة رسم أهداف السياسة الخارجية الفرنسية على المستويين الأوروبي والعالمي. هاته الأخيرة، ومن خلال عبارات أطلقها ماكرون من الإيليزيه اعتبرت فيما يمكن ّأن يكون بمثابة توبة سياسية أن “أوروبا ليست في حرب مع روسيا”.. عبارة كثيرا ما كانت سببا للكثير من الخلافات والجدل بين الدول الفاعلة في اتحاد القارة العجوز، وذلك على هامش النسخ الأخيرة من مؤتمرات ميونيخ للأمن الدولي.
على أية حال، تتزامن تلك الزيارة في ظل إجماع أوروبي وإقرار فرنسي بحلول وقرب نهاية هيمنة الكتلة الغربية على إدارة الشؤون العالمية. والتي دامت أكثر من ثلاثة قرون. وهو ما يعني بداية بزوغ معالم تآكل هيبة الدولار وانكماش مصداقية العظمة الأمريكية.. بل وأكثر من ذلك انحسار جغرافيا روح وثقافة الرجل الأبيض ليقترب ارتكانها إلى زوايا المتاحف وتراث السياسة الدولية.
1. المنتظر وغير المنتظر: بين السيطرة وفقدان التوازن
أخذت الدبلوماسية الروسية في الآونة الأخيرة جرعة زائدة من الإندفاعية في السلوك والجرأة في الخطاب، والأمر يعود- بعيدا عن طبيعة وعقلية الجنس السلافي، أو اعتبارات تعود إلى اتجاهات الإحياء الأوراسي الذي انتقل من كونه ضرورة جيوسياسية ليتحول إلى تجلي جغرافي للرسولية الأرثذوكسية – إلى مستوى التوازن والتماسك الداخلي الروسي ومستوى القوة والطفرة في الشؤون الإقتصادية. وهو ما من شأنه أن يمنح للكرملين جرعة زائدة من الثقة والثبات أمام الخصوم، ورفعه لكل التحديات وضربه عرض الحائط لكل الطقوس والأعراف والقواعد الدولية التي أسست لتغول الرجل الأبيض على حساب قيم وثروات بقية الأمم والشعوب، التي ألفت دور الرعية بل وانخطرت في علاقة أبوية مع واشنطن وملحقاتها الأطلسية. علما أن فلاديمير بوتين أشار في وقت سابق إلى ما مفاده: “أنه توقف عن ممارسة السياسة في البلاد لمدة عشر سنوات. حتى يتفرغ لبناء اقتصاد الدولة”.
زيارة لم تكن منتظرة -بطبيعة الحال إعلاميا -، وهو أمر لا يهم لا الجزائر ولا روسيا.. هذه الأخيرة التي أعطت من خلال هكذا هبة انطباع بأنها قوة دولية لا تحتاج إيعازا ولا دعوة صديق أو حليف، ما دامت تريد التأكد بنفسها من مصداقية تلك الرمزية والتوصيف لعلاقات بينية بنيت نظريا على الثقة المتبادلة.
زيارة تزامنت مع الذكرى الستون من تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وروسيا.. اختيار روسي موفق إلى حد ما ومحرج صراحة بالنسبة للجزائر، التي حرصت ولحقبة زمنية مهمة على عدم الإصطفاف عندما يكون العالم على صفيح ساخن… موقف دبلوماسي ذكي إلى حد ما… طبعا هو أمر يسهل تمريره في فترات الهدوء الإقليمي والإستقرار الدولي.. لكن عندما يتعلق الأمر بحرب تصل شظاياها إلى حواف الفسطاطين.. تصبح قضية الإصطفاف ضربا من السذاجة الدبلوماسية وحركة استراتيجية بائسة، يثبت من خلالها صاحبها فقدانه لهوية استراتيجية يبوصل من خلالها خياراته المصيرية عند هكذا وضعيات…
المهم، منذ آخر زيارة روسية للجزائر والتي تعود إلى شهر جانفي 2019م، أي قبل استقالة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. كانت موسكو من العواصم العالمية القليلة التي حافظت على استقرارخطها الإستراتيجي والدبلوماسي مع العاصمة الجزائرية، وهذا لاعتبارات تعود بكل صراحة لعمق وبعد النظرة المصلحية والجيوسياسية الروسية.. باختصار إنه “الصبر الإستراتيجي الروسي يا سادة”… صبر تغذيه يقظة جيوسياسية روسية سيقف على خلفياتها كل متصفح لدليل الخطوات الأوراسية الجادة لموسكو “أسس الجيوبوليتيكا….” لألكسندر دوغين.. فعندما يتحدث هذا الأخير عن إنقاذ أوروبا في مقاربة منه للي ذراع الأطلسيين. هو بطريقة أو بأخرى يريد روسيا أوراسية ولكن ليس على أنقاض أوروبا المحترقة. بل يريد عزل الفرع الأوروبي وفصله عن الأصل الأطلسي وذلك من خلال الإلتفاف حول القارة العجوز، من خلال الإستثمار الإستراتيجي في أدوات الجغرافيا الطاقوية.. وفي ذلك، يعتبر الغاز مدخلا مهما لتنفيذ تكتيك الحصر في الزاوية.. ولن يكون ذلك إلا من خلال حرمان الجسد الأوروبي من شرايين الغاز. فإذا توقفت الشرايين (إمدادات الغاز) عن ضخ حاجيات ذلك الكيان، حينها يمكن البحث عن الإتحاد في البراد الجيوسياسي. وفي ذلك، تعتبر الجزائر شريانا مهما وفاعلا حاسما في عملية إنجاح مثل تلك التحرك والمناورة.. ففي إطار الإتفاق المسبق بين بوتين والرئيس الجزائري الحالي تبون، ما يتعلق منه خاصة وتبادل الزيارات من باب تمتين وتعزيز روابط التعاون والتنسيق الإستراتيجي. كان هنالك تركيز شديد حول أهمية التحضير لاجتماع “اللجنة المشتركة للتعاون الإقتصادي”. وذلك في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز. في وقت تم فيه حظر الغاز الروسي على أوروبا. في ظل انحسار البدائل المتوفرة أمام الدول الأوروبية (فهي تستورد حوالي 40% من حاجياتها من الغاز الطبيعي من روسيا). وعجز واشنطن عن الإيفاء بالتزاماتها.
صحيح أن للجزائر وروسيا علاقات تاريخية عميقة، سواء: على المستوى العسكري (أساسا). إذ تعتبر الجزائر أهم زبون في المنطقة بالنسية لروسيا. ناهيك عن الروابط الإستخباراتية التي تجمع البلدين.. وما عملية “اليد المبسوطة” إلا واحدة من الشواهد الكبيرة التي عرفها تاريخ التفاعل الأمني البيني لتلكما الدولتين إبان سبعينيات القرن الماضي. هو ما أكده وتعزز إبان اللقاء الذين جمع كل من وزير خارجية الجزائر رمتان لعمامرة بنظيره لافاروف وإلى جانبه نيكولاي باتروشيف (أمين عام مجلس الأمن الروسي، وذلك بتاريخ 5 أفريل من السنة الجارية. أما التعاون الإقتصادي بين البلدين فهو غير مهم (حجم التبادلات وصل إلى 4.5 مليار دولار) بالمقارنة مع حجم التنسيق في إطار الدول المصدر أو المنتجة للغاز أو حتى البترول. أي في بناء مقاربات اقتصادية من شأنها أن تتحول إلى استراتيجية مواجهة أو سياسات صمود ضد تكتل دولي أو ضغوطات ممارسة من هنا أو هناك.
الآن وقد اختارت روسيا أن تبدأ اللعب حتى تكون اللعبة لعبتها (في وقت كان يحضر الغرب لسيناريو الإلتفاف على روسيا منذ مدة). تريد الآن أن تعرف بدقة وبصفة نهائية موقف حلفائها وأصدقائها ومن بينهم الجزائر من حربها مع أكرانيا: فهي لا تريد بيانات ترفع وتنشر هنا وهناك، ولا مساندة ودعما أو تصويتا.. ما دامت كلها تأتي في إطار منظمات وشرعية دولية لا تعترف بها موسكو.. بل تنتظر في عجلة من أمرها الإنضواء تحت فسطاطها وقناعاتها التي يبدو أنها بدأت تكتسح الكثير من عقول النخب والرأي العام في المجتمعات الغربية، أو الوقوف أمام قدر طالما حذر منه بوتين حتى الأوروبيين في نبرة استهزائية ونرجسية.. هي عقلية السلافي عندما يكون متأكدا من وقوع الفريسة بين أنيابه… فلا مجال للدبلوماسية ولا للنفاق السياسي ولا لجميع حيل العالم أمام صوت الحرب إلا من به صمم… إما مع روسيا أو ضدها.. إما مع قطع الغاز على أوروبا أو الإستمرار في دور الرعية.
استقر الخيار الجزائري على روسيا ولو بإشارة ضمنية. على الرغم من كون تلك الزيارة أتت على أعقاب نزول رجل الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن إلى الجزائر في زيارة إنقاذ لأوروبا، وذلك من أجل توقيع اتفاقيات لضخ كميات إضافية من الغاز الجزائري في الأسواق الأوروبية… خليط من الإحراج والجرأة الجزائرية في خلطة سيادية كانت روسنة البوصلة الجزائرية الإتجاه الأكثر استقرار في قراءة العاصمة الجزائرية لميزان الخسارة والمكاسب.. الماضي الغربي والمستقبل الشرقي.. وقفت من خلالها الجزائر أمام طريقين: إما، كسر سياسة وتقاليد عدم الإصطفاف والتزام الحياد على مسافة القضايا التي تشكل معضلة مصلحية بالنسبة لها. هذا إلى جانب تغامر وتضع مبادئها القومية الخارجية (على غرار عدم التدخل في شؤون الدول الخارجية، وحل النزاعات بالأدوات السلمية واحترام سيادة الدول وقدسيتها في البراد. أو تضحي بكل ذلك، من أجل تأكيد مصيرية ذلك الخيار، من جهة. ومتانة ومصادقية وضعها كدولة صديقة وحليفة وعمق علاقاتها الإستراتيجية، من جهة أخرى.. حقا هو اختبار حقيقي بالنسبة للعاصمة الجزائرية. لكنه على قدر وضوحه في هذه الفترة الحرجة من الزمن، وعلى قدر استقلاليته وسياديته.. عليه أن يكون جاهزا لتداعيات مثل هكذا توجه.. فما زلنا محاصرين ببيادق إقليمية تحركها السواعد الغربية وحتى حساباتنا مع الفسطاط الآخر لم تكتمل بعد… لهذا ستنتقل مسارح الحرب مع روسيا من أوكرانيا إلى مناطق أخرى ولكن بأشكال مختلفة جدا، حروب استنزاف على مستوى الدول التابعة للفسطاط الروسي.. أغلبها فاقد للتوازنين الداخلي والإقتصادي.. أكثر من ذلك، كانت أراضيها منكشفة ومعطياتها مفتوحة أمام مكاتب الإستخبارات الغربية باسم التعاون والتنسيق الأمني.. قد تكون الجزائر واحدة من الدول القليلة التي وفقت من منطلق اعتبارات استراتيجية في خيارها واتجاهها السيادي، إذ تقضي الحكمة الصينية أنه “في المعركة.. لا أحد يتبع قائدا مترددا”. لم تكن روسيا شريكا صادقا وأكثر موثوقية من أي زمن كان. لكن لا ننسى ونحن نتكلم عن العدالة الدولية المنشودة روسيا، أنها هي روسيا البوتينية التي لا تزال تدوس كرامة المسلمين بجزمات الأوراسيين في الشيشان وداغستان وأوسيتيا الشمالية.. هي روسيا التي لا تزال تتكبد خسائر استراتيجية في معاركها مع المقاومة الإسلامية هناك… هي روسية التي جعلت الطرقية والصوفية رأسا على دول كانت راية أهل السنة الجماعة شامخة عجزت جحافل قياصر روسيا عن دحرها… هي روسيا التي على الرغم من كونها روسيا القوية والملهمة لا ننسى أن رياح التغيير قادمة وإن لم نبني مناعة دولنا بسواعدنا ومقدراتنا الوطنية فسرعان ما سنساق بعد اضمحلال -ذلك الظل الذي كنا نستظل به – سوق الشاة إلى جزارها.