الوحدة الجيوسياسية بدل العقد الجيوسياسية التقسيمية والإنقسام بالوكالة، ليببا تستحق

أضيف بتاريخ: 06 - 06 - 2020

“فالميليشيات تفرض قوانينها، وهي منفلتة لا تخضع لا لسلطة في السماء ولا لسلطة في الأرض”، كان ذلك على حد رأي ميشيل رامبو في كتابه “عاصفة على الشرق الأوسط الكبير” في الصفحة 632 (ترجمة لبانة مشوح). غير أن الوضع تعكر أكثر الآن بفشل الحكومات والبرلمانات والمجالس والمؤتمرات المتتالية إبان سقوطها كلها بشكل متلاحق وأصبحت كلها غير شرعية وباتت دول التدخل تفرض جرائمها متفلتة من حدود الله وحرمة الإنسان الليبي. هذا هو الوضع الحالي كما هو.

لعل من يجعل من توصيف الوضع الليبي اليوم غير ذلك ويخالف منطق الواقع الحق دون وحشية عسكرية ودون انحطاط أخلاقي باطنه طمع اقتصادي وغطرسة سياسية، لا ولا تقية ديبلوماسية كاذبة، لعله يحتاج مقدمات أخرى. فربما يتناسى أو لا يجتهد ليعرف ويعترف.

مقدمة أولى: من هم حكام ليبيا وما علاقتهم بأمريكا وبالخليج؟

إن نبذة مختصرة ومنتقاة مكتفية بالوجوه الأولى التي تم تنصيبها في الحكم في ليبيا تفي بالغرض لنفهم إنه لا يمكن تصور الخروج من تحت أنقاض الخراب بمثل من يشبه هذه الأسماء: محمود شمام الذي تشير سيرته الذاتية إلى أنه كان رئيسا لتحرير النسخة العربية من مجلة نيوزويك الأمريكية وعضوا في مركز كارنيغي الأمريكي للأبحاث ومستشارا وعضوا في مجلس إدارة قناة الجزيرة والمقرب من أمير قطر والذي كان وزيرا للاتصال والخارجية أيام المجلس الانتقالي الليبي. وعبد الرحمان الكيب رئيس الحكومة الليبية الذي كان عضوا في مجلس الطاقة في جامعة ولاية آلاباما الأمريكية ورئيس قسم الطاقة في الجامعة الأمريكية في الشارقة بالإمارات ومستشار شركات النفط اليابانية البريطانية. ومحمود جبريل رئيس تحالف القوى الليبرالية الوطنية المتخرج من الجامعة الأمريكية ورجل أمريكا المعروف في النظام الليبي السابق والمنشق عنه. والداعية علي الصلابي عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وصديق القرضاوي. ومصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي وهو من ذوي التوجه الإخواني. ومحمد المقريف رئيس المجلس الوطني الليبي (البرلمان) الذي عاش في أمريكا لمدة عقدين وكان أستاذا بجامعاتها عاش أيضا بصفة معارض قريب من الإخوان. ورئيس الحكومة الآخر مصطفى أبو شاقور الذي كان يعمل مستشارا لدى وكالة الفضاء الأمريكية ناسا. وحفتر وعبد الحكيم بلحاج والسراج… والعشرات. (راجع كتاب “الربيع العربي. آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير” لحسن محمد الزين. الصفحات 213 و214 و268).

مقدمة ثانية: من أي نوافذ دخلت دول الخليج إلى ليبيا وأخذت دورا على رقعة النهش إلى جانب الاستعمار الأوروبي التقليدي؟

ربما لا يخطر ببال المتابع المستعجل غير القارىء لتاريخ ممالك ومشايخ الأمراء والملوك أن هذه الأخيرة عوضت أدوارا مثل دور الإمبراطورية العثمانية في وقت من الأوقات ومثل ثنائية باكستان والسعودية في وقت آخر. وربما لا يربط آخرون بين توسع تلك الحركة واستخدام القوة الناعمة كثقافة وحضارة وبين قوة الأمن الناعم الاقتصادية والمالية بالأساس وهي المدخل الذي استعملته ممالك البترودولار لتضع مخالبها في المنطقة العربية والإسلامية ومن ضمنها ليبيا.

لقد أتى ذلك تحت عناوين الحيادية الفاعلة وحفظ السلام والوساطة وتحت عناوين الديمقراطية والثورة، من المساعدات الانمائية والخيرية إلى صناعة وتمويل وتسليح العصابات الإرهابية والتطبيعية والعدوان المباشر مرورا ببعثات ومهمات وعلاقات بمجلس الأمن والأمم المتحدة. فمنذ عام 1977 تم نشر جنود الإمارات لأول مرة خارج الحدود عندما تم إرسال كتيبة للانضمام إلى قوات الردع العربية المشتركة في لبنان. وفي سنة 1992 تم ارسال مهندسين وقوة حفظ سلام اماراتية لمساعدة العمليات الأمريكية في الصومال. ثم رواندا وموزمبيق. وفي سنة 1995 نقلت جرحى البوسنة جوا كأول دولة عربية تتدخل في نزاع أوروبي. وكذلك في البلقان فعلت في شأن ألبان كوسوفو. وفي العام 2003 نشرت عددا من المدرعات والجنود في أفغانستان وعبرت عن دعمها الصريح لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة واستخدمت القرآن والموسيقى والإعلام والطبيبات والحلوى للضحك على الأفغان.

توسطت الإمارات عام 1947 وفضت نزاعا حدوديا بين مصر وليبيا. وحاولت حسب مفهومها إنقاذ العراق سنة 1991 مع السعودية ومصر وسنة 2003 مع مصر والجامعة العربية وعرضت على الرئاسة العراقية الإقامة في أبو ظبي في حال امتثلت للمطالب الأمريكية بمغادرة العراق. ثم توسطت بين أميركا والعراق سنة 2007. (أنظر كتاب “ما بعد الشيوخ. الانهيار المقبل للممالك الخليجية” لكريستوفر م. ديفدسون – ص. ص: 145-152).

أما عن قطر التي يصفها البعض زورا وبهتانا ب”سويسرا الخليج” فقد أشرفت على مؤتمرات واتفاقات كثيرة في شؤون إقليمية وفي شؤون حزبية وبين الدول والتحالفات، حيث لم تكن بعيدة عن لبنان (بين حزب الله و14 آذار سنة 2008) وتدخلت لتسليم الممرضات البلغاربات من ليبيا سنة 2007. وكذلك وقف إطلاق النار بين الخرطوم ودارفور سنة 2010. وأيضا محاولات التسوية بين إريتريا وجيبوتي (نفسه. المرجع السابق).

هذه نبذة تخص المنطقة كاملة، فماذا هم فاعلون في عضو من المنطقة هو ليبيا بعد الذي فعلوه؟ أما عن استخدام القوة الناعمة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا وفي كل المجالات الأخرى السياسية والمالية والاقتصادية والرياضية والثقافية… فليس المجال مجالها إذ ما يعنينا هنا هو المنطقة العربية والإسلامية.

مقدمة ثالثة: كيف جالت كل من تركيا وروسيا في “الشرق الأوسط” و “شمال إفريقيا”؟

يمكننا إذا أردنا أن نوسع دائرة النظر في خصوص تركيا بالذات في العلاقة مع كيان العدو الصهيوني، – لأن جوهر الاندفاعة التركية إلى ليبيا متعلقة بغاز شرق المتوسط وبأنبوب الغاز الذي تتفاوض حوله مع كيان العدو من ساحل فلسطين المحتلة إلى إيطاليا- ، فضلا عن الخصومة ذاتها مع مصر واليونان وغيرهما، يمكننا أن ندقق في كتاب “استراتيجية تركيا شرق أوسطيا ودوليا في ضوء علاقتها باسرائيل” لكاتبه رائد مصباح أبو داير. وكذلك مقالنا المنشور في موقع رأي اليوم الإلكتروني بتاريخ 30/12/2019 وتحت عنوان “فجر شرق المتوسط الجديد والشمال الأفريقي الجديد. لماذا يستعجل اردوغان على ليبيا؟ إنه على وجه الدقة الإنتقام من التاريخ وأوهام الاسترداد الجغرافي العثماني”.

ما يهم روسيا يتقاطع مع ما يهم تركيا. وهو ما نستطيع تلخيصه من خلال ورقة من الورقات الصادرة عن مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية تحمل إسم “روسيا في الشرق الأوسط. سياسة في امتحان” كما يلي:

“الاحتياجات الروسية ذات الطابع الجيوسياسي والاقتصادي مثل الحصول على موطىء قدم لها في منابع الطاقة الرئيسية في الخليج وشمال افريقيا، وكذلك الوصول باساطيلها إلى المياه الدافئة، وضمان مصالحها التجارية والسياسية ذات الصلة”. يلخص ذلك في الحقيقة دراسة الباحث ناصر زيدان بعنوان “دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين”. وتضيف الورقة: ” كان للموانىء والمعابر المائية التركية أهمية خاصة، بإعتبار انها المنفذ الوحيد لروسيا وأوكرانيا والبلاد السلافية في شرق وشمال شرق أوروبا على المياه الدافئة في البحر الأسود، ومن ورائه البحر المتوسط.”

إننا لا ننوي تحويل هذه المقالة إلى ورقة أكاديمية بالمعنى الخالص والدقيق وإنما تعمدنا هذا التمشي للإبتعاد عن الرأي السياسي المباشر بالمقام الأول ولتمهيد الرؤية التي ننوي التعبير عنها بالمقام الثاني دون أن ننسى ان ما سبق مقدمات.
من البديهي كون العثمانية القديمة في الشمال الأفريقي ليست بحثنا الآن ولا الدور البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي في ليبيا. إنه علينا قبل أن نخلص إلى الرؤية التي نطرحها أن نبدي بعض الملاحظات السريعة حول مصر والجزائر في القضية الليبية أيضا ربطا بتركيا وروسيا وكيان العدو.

إن مد اليد إلى المغرب العربي زائد مصر والساحل والصحراء يراد منه ترسيخ نظام إقليمي مغاربي عربي وافريقي موال لمحور الإرهاب والتبعية والتطبيع والتجويع وترسيم اتفاقات تقاسم الغنائم الثرواتية وإحكام القبضة الأمنية والعسكرية والاستخبارية على مصير الكتلة الجيوسياسية التي تخصنا، ومن بعد ذلك وتحت السطوة الأمريكية والصهيونية والأوروبية والفشل في إنهاء الطموح الروسي والصيني، سيعيدون سيناريوهات التاريخ العثماني الغابر بتسليم بلداننا تقاسما بين من سبق وينتهي دور الوكلاء تركيا وخليجيا.

بالمقابل، سيقول قائل بأن محورا آخر يلعب نفس اللعبة. ولكن تلك خدعة كبرى مثل الخدعة الإستراتيجية الصهيونية في اللعب على الحبال بين تركيا ومصر في موضوع الغاز. أولا لأن مصر بلد جوار ولا يمكن أن نخرجها لا من التاريخ ولا من الجغرافيا ولم ولن يكون لها أبدا مطامع استعمارية في ليبيا ولا يمكن لا للامارات ولا للسعودية أن تقفز على مصر وتستوطن ليبيا (لا يجب اغفال تنامي مخاطر التصعيد على المياه في خصوص مصر وقضية سد النهضة مع إثيوبيا وغيرها. وكذلك تنامي أهمية الصحراء الغربية المصرية غرب نهر النيل على الحدود الليبية وجنوبا من المتوسط إلى الحدود مع السودان خاصة مع اكتشافات مصر الطاقية في منطقة أبو سنان في هذه الصحراء والاستعداد لإنشاء قاعدة عسكرية مصرية جنوب السودان تم الاتفاق حولها بحسب الإعلام السوداني). أما شأن العلاقات مع الصهاينة فهو مشترك بين كل الأطراف ولا يعالج إلا بضمان الاستقلال والوحدة والمقاومة وهذا بحث آخر وهدف آخر يمهد له إبعاد الاستعمار عن ليبيا. وثانيا لأن التجارب تقول في سوريا وفي العراق إن الأتراك هم الذين يمارسون سياسة استعمار عسكري متواصلة على الأرض. وثالثا لأن روسيا التي يريد البعض أن يساوي ما بينها وما بين الأمريكان لم يكن لها على الإطلاق أي تاريخ استعماري في منطقتنا ولن يكون؛ بالمقاومة لا بالنوايا. فأقصى ما تعمل عليه روسيا هو التوازن في المصالح في شرق المتوسط والوثبة – الاطلالة الاستراتيجية على المنطقة والمياه الدافئة وهذا الخط الاستراتيجي الذي تعمل عليه في الشرق كله لا يمكن أن ندعي استعماريته ولا يمكن أن نغفل أن الشقيقة الجزائر على علاقات مميزة وعميقة ومتقدمة واستراتيجية عسكريا وأمنيا واستخباريا مع روسيا التي كانت حتى سنة 2011 تتقدم في علاقاتها الجيدة مع ليبيا وفي المشاريع المستقبلية الثنائية الروسية الليبية التي كانت تخطط وهي إحدى أسباب إسقاط الشقيقة ليبيا وفوق ذلك لم يمنعها الوضع الحالي من العمل حيث قامت شركة تافنت الروسية مثلا بتوقيع عقد في ديسمبر/كانون أول الماضي للتنقيب عن النفط في حوض غدامس غرب ليببا. وعلى العموم يبقى الخط الروسي آمنا في أهدافه فضلا عن كونه مؤمن جزائريا وبثقة خاصة وأننا نتحدث عن روسيا الأوراسية بهذه الرؤية بالذات وهي وجهة فائقة الأهمية لا يعقل أن نتعامى عليها، بل تستحق أن نبتعد عن كل ما يأتي من تركيا والخليج، إذا أتى أصلا ما يستحق الذكر ولن يأتينا أفضل مما أتى في سوريا والعراق واليمن ومؤخرا ليبيا.

لا شك أننا بصدد دفع ثمن التفكك العربي والتفكك الأفريقي والتفكك الإسلامي. ولا ريب أن قوس الأزمات سيتوسع من السودان إلى موريتانيا مرورا بمالي والنيجر والرأس الأخضر وتشاد وصولا إلى ليببا وتونس والجزائر والمغرب دون أن ننسى دول الساحل الأخرى من الأطلسي إلى البحر الأحمر. وكما تعودت أنظمة المنطقة، يبقى المستفيد الوحيد هو الاستعمار الغربي وكيان العدو الصهيوني. ما يدفعنا لانتظار كوابيس أخرى اخوانية ووهابية وأطلسية وصهيونية وأمريكية ممن يعاني عقدة أوروبا وعقد أخرى مثل تركيا ومن يعاني عقدة محور المقاومة مثل السعودية وأطراف عديدة أخرى ومن يعاني عقدة الوجود أصلا مثل كيان العدو الصهيوني ومن يعاني عقدة روسيا والصين وإيران وأمريكا الجنوبية مثل الولايات المتحدة ومن يعاني عقدة إفريقيا بأسرها كالاتحاد الأوروبي ومن يتحالف معه أو يجره علاوة على عقدته الداخلية.

لكل ذلك لا نرى على المستوى الإستراتيجي البعيد إلا فكرة ومشروع الوحدة في كل إقليم على حده أو بين عدة أقاليم؛ الوحدة الجيوسياسية والوحدة الجيو-اقتصادية والأمنية والعسكرية وبالتالي الوحدة الجيوسترايجية الشاملة المتكافئة والعادلة والنافعة لكل الشعوب إن كان الشعب العربي وإن كانت شعوب الأمة العربية والإسلامية وأوسع. فتصحيح العلاقة مع العدو الصهيوني هي التي ترتب شؤون المنطقة وتعمم الوحدة والمقاومة والنصر والقوة والسلام. وأما تثبيت الصهاينة في المتوسط فيأبد الانقسام والتقسيم والاقتتال. وهنا علينا أن نشير إلى ما يلي:

1- موقع التطبيع في قسمة الليبيين وإنقسام ليبيا ثابت
2- دور التطبيع في التمحور بالوكالة وفي تمزيق ليبيا إلى محورين وأكثر واضح
3- خطورة التطبيع في التمحور مع العدو ومخاطر التقسيم أكثر من واردة وداهمة ووشيكة
4- تهديد ما بعد التطبيع الوجودي والاستراتيجي أمر واقع

إنه لا مناص من تفكيك المحاور المصطنعة والعقد الجيوسياسية ولا مخرج سوى التمحور بالسيادة لا بالوكالة. وإن مصالحة التاريخ والجغرافيا تستحق كل العناء رغم الجراح ورغم أسافين الأعداء في الجسد الواحد. وإنه محكوم علينا أن نستصرخ رحم الجغرافيا وأخوة التاريخ بلا كلل ولا ملل وبلا هوادة. أجل إن ذلك ممكن في إطار تحالف شرقي- جنوبي أو وفاق شرقي بدل الوفاق الغربي القديم، المهم الانحياز شرقا وجنوبا.
وبدل المعركة على سوربا والمعركة على اليمن والمعركة على العراق والمعركة على ليبيا… يجب أن تكون المعركة على فلسطين دون غيرها ويسود التعاون والتكامل بين كل الدول العربية والدول الإسلامية الكبرى في تمام الأقاليم الخمسة أي المغرب العربي الكبير وأفريقيا السمراء والمشرق العربي الكبير والخليج وغرب آسيا وأبعد وإن أمكن الاختزال الوحدوي أكثر ما يمكن.
صلاح الداودي